الصعايدة والقطارات.. ذكريات مؤلمة

عماد الدين حسين
عماد الدين حسين

آخر تحديث: الخميس 31 أغسطس 2017 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

لكل صعيدى تجربة خاصة مع القطار أو «القطر» كما يطلق عليه هناك. القطار كان ولا يزال هو وسيلة النقل الرئيسية بين القاهرة وخط الصعيد الطويل الممتد حتى أسوان، حتى فى ظل وجود خيارات كثيرة، الآن بوجود مطارات فى غالبية محافظات الصعيد للقادرين وهم قلة، إضافة إلى طريقين أساسيين هما الصحراوى الغربى والشرقى.
أما طريق القاهرة ــ أسوان الزراعى، الذى كان الطريق الوحيد فى الماضى، فقد تحول لمجرد طريق فرعى تستخدمه التكاتك والميكروباصات بين القرى والمراكز والمحافظات، و«حاله يصعب على الكافر» لأسباب كثيرة أهمها كثرة مطباته.
القطارات جزء أصيل من ذكريات وحكاوى وحواديت الصعايدة، خلافا لأبناء الوجه البحرى، أو إقليم القناة الذين يتمتعون بميزة نسبية ــ يحسدهم عليها الصعايدة ــ وهى قربهم الجغرافى من القاهرة، وبالتالى استخدام السيارات أو الاتوبيسات والقطارات أيضا فى المسافات القصيرة.
قبل أن تتحسن الأوضاع نسبيا فى السنوات الأخيرة، وحتى وقت قريب، كانت رحلة القطار إلى القاهرة لغالبية الصعايدة، جزءا من رحلة عذاب. وقتها كانت معظم العربات درجة ثالثة، وصار لها اسم شيك فيما بعد هو «الدرجة المميزة» لكى يتم رفع سعرها وليس لتحسين مستواها!!.
معظم الصعايدة كانوا يخوضون رحلة مضنية من أجل الفوز بكرسى «ربع أو ثمن آدمى» فى الدرجة الثالثة، أو حتى يجدوا متسعا للصعود إلى المكان المخصص للحقائب و«العفش والكراتين» ليجلسوا أو يناموا عليه.
زرت القاهرة لأول مرة طفلا صغيرا بصحبة والدى فى أوائل السبعينيات، ولا أتذكر وسيلة المواصلات. وفى خريف ١٩٨٢ كانت أول رحلة لى من أسيوط إلى القاهرة بمفردى لتوقيع الكشف الطبى للالتحاق بكلية الإعلام جامعة القاهرة.
ركبت القطار فى الحادية عشرة ليلا من محطة مركز القوصية الواقعة بقرية النزالى، وكان سعر التذكرة تسعين قرشا، ووصلت الجيزة فى الخامسة صباحا. رائحة هذه الليلة وظروفها وكوابيسها لا أستطيع نسيانها. ظللت واقفا طوال الطريق. كنت أعتقد أنها الرحلة الأصعب، لكن ومع تجارب السنوات اللاحقة، اكتشفت أنها كانت رحلة مريحة جدا!!.
بعدها بعامين أو ثلاثة ركبت من محطة الجيزة الرئيسية عائدا إلى أسيوط، وكان القطار قادما من مطروح أو الإسكندرية ومحطته النهائية أسوان أقصى جنوب مصر.
لم أتمكن إلا من وضع ساق واحدة داخل القطار، وظللت متشبثا بمقبض باب القطار. لم أكن وحدى فى هذه المأساة، بل كان معى اثنان فى نفس الوضع، وعندما اقتربنا من محطة الواسطى ببنى سويف، كان القدر رحيما بى، وصار كل جسدى داخل القطار فى الطرقة أو المساحة الفاصلة بين عربتين!!.
وقتها كنت معجبا بشجاعة وجسارة «المسطحين»،الذين يركبون فوق سطح القطار. جربت هذا الأمر لمسافة محطة واحدة، وبعدها توقفت عنه نهائيا. لم أتعاطف مع الذين يلجأون لـ «التسطيح» بغرض «التزويغ» من المحصل أو ناظر القطار، لكنى كنت شديد التعاطف مع من يفعل ذلك لظروفه الاقتصادية الصعبة، ومن حسن الحظ أن هذه الظاهرة تراجعت الآن إلى حد كبير بسبب الوعى والرقابة وزيادة الحوادث الناتجة عنها.
غالبية قطارات الصعيد يغيب عنها الرقابة والمتابعة والاهتمام، وباستثناء الدرجتين الأولى والثانية المكيفتين، فإن قانون الغاب والبلطجة، كانت هى سيدة الموقف خصوصا فى الأعياد. دورات المياه غير آدمية، ويتحول الأمر إلى عذاب أكبر حينما يصطحب المرء أسرته معه عبر رحلة طويلة.
وحتى وقت قريب كان رصيف بعض محطات الصعيد قصيرا لدرجة أن من كان فى الدرجة الثالثة أو حتى الثانية، يضطر إلى السير للأمام من أجل أن يلحق بالرصيف.
الأمر ليس كله سيئا، وللموضوعية فهناك بعض التغيرات الإيجابية، مثل وجود حد أدنى من النظافة، وتشديدات أمنية، ومنع التدخين داخل العربات مع السماح به بين العربات، وهو أمر نتمنى أن ينتهى ويصبح التدخين ممنوعا فى كل القطارات.
السؤال هو: ما الهدف من كل ما سبق؟!
حاولت أن أعالج الموضوع انطلاقا من تجربة شخصية. حوادث القطارات كثيرة، بعضها بسبب أخطاء بشرية، كما حدث فى تصادم القطارين مؤخرا فى الاسكندرية، لكن معظمها بسبب تردى وانهيار المنظومة بأكملها. من أول انتشار المخدرات وغياب التدريب والتأهيل وصولا إلى نقص الإمكانيات لتطوير كل غالبية القطارات والمحطات والمزلقانات.
عيدكم مبارك إن شاءالله، ومبروك لمن ناضل وصارع وجاهد وحصل على تذكرة إلى الصعيد فى أيام العيد المزدحمة، وربنا يكرمنى بتذاكر العودة من أسيوط للقاهرة !!!.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved