غارة إسرائيل.. اختراق للانتفاضة العربية

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 31 أكتوبر 2012 - 8:10 ص بتوقيت القاهرة

تعامل أهل النظام العربى مع الغارة التى شنها طيران العدو الإسرائيلى على ما قيل انه مصنع للسلاح فى بعض ضواحى الخرطوم، وكأنه «مجرد حادث أمنى».

 

وفى ما عدا مصر، لم تصدر أية بيانات رسمية عن الحكومات العربية فى مختلف الدول ما بين المحيط والخليج، ولم يطل على الشاشات مسئولون كبار «يحذرون» إسرائيل من «مغبة سلوكها الذى يؤكد سياساتها التوسعية واعتمادها الإرهاب وسيلة».. كأنما ذلك السلوك وتلك السياسات سرية ترسم فى ليل، ولا «تفصح» عنها إسرائيل بالهدم اليومى لبيوت الفلسطينيين فى مختلف أنحاء الضفة وبالقتل اليومى لأطفالهم وليس فقط لرجالهم، فضلا عن محاصرة المسجد الأقصى بمستعمرات جديدة لوحوش المستوطنين وعن القصف شبه اليومى لأبناء فلسطين فى غزة.

 

بل إن الفضائيات العربية، وما أكثرها، والصحف العربية على اختلاف توجهاتها، قد اكتفت بإيراد «الخبر»، كما أوردته وكالات الأنباء الدولية، ثم انصرفت الى سائر الشئون الخطيرة كمثل أزمة المواصلات فى الفضاء أو ظهور الأمير البريطانى عاريا، أو تلك القفزة الخرافية من مركبة فضائية أو آخر أغنية لمطربة بجسدها، أو لمطرب حظى بمنادمة الأمراء.

 

لم تدع جامعة الدول العربية الى اجتماع طارئ لمجلس وزراء الخارجية العرب لتدارس تقديم شكوى إلى مجلس الأمن، مثلا.. ولم يتكرم رئيس أو ملك أو أمير أو حتى شيخ باتصال مجاملة مع المسئولين السودانيين، بمعزل عن موقفه السياسى من النظام فى الخرطوم.

 

●●●

 

سقط التضامن العربى، المتهالك اصلا، بالضربة الإسرائيلية القاضية.. وانكشف دعاة «الربيع العربى» والذين قفزوا باسمه، وعبر التحايل على جماهير الميدان، إلى السلطة، فإذا رموزه من المسئولين الجدد يزاحمون رموز عهود الطغيان على «صداقة الإدارة الأمريكية» ويستقبلون موفديها، سياسيين وعسكريين وقادة أجهزة أمنية، باحترام مبالغ فيه، تمهيدا لأن يطلبوا مساعدات مباشرة أو قروضا من البنك الدولى وصندوق النقد الدولى، ومفاتيح كليهما فى واشنطن.

 

لقد أرادت إسرائيل ونجحت فى التأكيد على أن «الربيع العربى» أسطورة، وأن تسميته التى نقشت بالإنكليزية وأخذناها مترجمة حتى لا يلفظ العرب كلمة « ثورة» بدلالاتها الشاملة التى تتجاوز ما تحقق حتى اليوم، فعليا، وهو أقل من المأمول، بل من الممكن.

 

●●●

 

إنها غارة على مصر ــ الثورة المرتجاة، أولا، وعلى سائر الانتفاضات الشعبية التى أسقطت النظم الدكتاتورية القديمة ولكنها قصرت عن تحقيق مطالبها لأنها لم تكن تملك مشروعا سياسيا، وطنيا وقوميا، يحقق مطامح شعوبها.. فضلا عن أنها بالتوجهات ثم بالممارسات التى اعتمدتها حتى تاريخه، قد طمأنت العدو الى أنها فى شاغل عنه، وأنها غارقة فى العمل لإنجاز مشروع تنظيماتها الإسلامية للهيمنة، على البلاد والعباد، وغير معنية بالعدو الإسرائيلى ومخططاته لحاضر المنطقة ومستقبلها.. هل من الضرورى التذكير أن النظام العسكرى فى السودان يرفع ــ هو الآخر ــ الشعار الإسلامى ويستظله للهيمنة على الحكم باسم الشريعة؟!

 

لقد ضيع هذا الحكم العسكرى المصفح بالشعار الإسلامى السودان جميعا، دولة وشعبا موحدا وقدرات اقتصادية، أخطرها الزراعة فى قارته الشاسعة ثم المعادن والنفط.

 

بل لقد ثبت، من خلال تجربة السودان، أن الحكم الإسلامى المصفح بالعسكر «مؤهل» لأن يضيع وحدة البلاد بدلا من أن يحصنها.. وها هى « دولة الانفصال» فى الجنوب تؤكد المؤكد، فقد صار لإسرائيل ومعها النفوذ الأمريكى قاعدة إضافية فى قلب افريقيا تهدد المستقبل العربى جميعا، ومصر على وجه التحديد، مع خطر التحكم بمياه نهر النيل ومحاولة استخدامه كأداة ضغط فعالة قد تغرق دول حوضه فى حروب لا تنتهى، لأنها تستهدف شعوبها فى أهم أسباب حياتها.

 

لم نرَ هذا النظام العسكرى، المصفح بالشعار الإسلامى، مقاتلا إلا ضد شعبه، فى الجنوب بداية، ثم فى الغرب وفى الشرق، حيث تهيأ الأرض لانفصال او أكثر يستولد دولة أو دولا جديدة على حساب وحدة السودان.. أما الشمال ففى أسر الاضطراب الدائم، والحكم الذى لا يقبل معارضة ولو فى حضنه.

 

على أن هذا كله لا يمكن أن ينسينا الأبعاد الخطيرة للغارة الإسرائيلية على دولة عربية، والتى يفترض أن تعتبر اعتداء على العرب جميعا، فى مختلف أقطارهم مشرقا ومغربا.

 

إنها غارة على الأمة جميعا، وأساسا على مصر وعهدها الجديد الذى يفترض انه ولد فى «الميدان». فالغارة استهدفت مصر وأمنها القومى والتوجهات الفعلية للحكم الجديد. وليس من المبالغة الافتراض أن توقيت الغارة لم يكن مصادفة.. فهى قد جاءت فى أعقاب الاشتباكات التى انفجرت فجأة فى سيناء، والتى ذهب ضحيتها عدد من الجنود المصريين خلال إفطارهم، واتهم بتدميرها ومحاولة توسيع دائرة نيرانها بعض التنظيمات الأصولية وان تسترت ببدو سيناء ومطالبهم المزمنة بإنماء منطقتهم واعتبارها « مصرية» وليست مجرد صحراء ملحقة بمصادفة جغرافية.

 

●●●

 

هل من المجازفة الإشارة هنا إلى التطمينات التى تلقتها إسرائيل من قيادة مصر مباشرة، وأبرزها الرسالة الفريدة فى بابها والتى بعث بها الرئيس محمد مرسى إلى رئيس دولة العدو شيمون بيريز مع سفيره الجديد، أو بطريقة غير مباشرة كسلسلة التصريحات الرسمية والشعبية التى أطلقها بعض قادة الإخوان، والتى كانت بين مصادر الطمأنينة الإسرائيلية الى أن الغارة ستمر من دون «الإساءة» الى علاقة الصداقة المستجدة مع الحكم الجديد فى مصر..

 

فتلك التطمينات كانت تؤكد للإسرائيليين أن مصر مشغولة بمشكلاتها الداخلية الثقيلة فحسب، وهى غير معنية بما تقدم عليه إسرائيل من اعتداءات على هذه أو تلك من الدول العربية، فضلا عن إيران التى تتوالى التهديدات الإسرائيلية بقصف منشآتها النووية على مدار الساعة.

 

بديهى أن يقول المسئولون الذين وصلوا الى سدة السلطة حديثا فى غير بلد عربى تفجرت فيه الانتفاضة الشعبية: إننا مشغولون بالتركة الثقيلة التى خلفها حكم الطغيان، ثم إننا أضعف من أن نواجه أى اعتداء إسرائيلى علينا مباشرة فكيف بأن نواجهه خارج أرضنا وفضائنا..

 

إن العدوان الإسرائيلى يفيد من انشغال الدول العربية بهمومها الداخلية، وهى ثقيلة، للاندفاع فى مخططه الذى يقوم على قاعدة إن إسرائيل أقوى من الدول العربية مجتمعة، وأنها القادرة والمؤهلة على إرباكها جميعا، وعلى ضرب كل منها، سواء أكانت قريبة كلبنان (حتى لا ننسى حرب تموز 2006 الإسرائيلية بالقيادة الأمريكية) أو بعيدة كما السودان.. هل نذكر بالغارات «القديمة» على العراق وعلى القيادة الفلسطينية فى تونس، وعلى سوريا (تكرارا)؟!

 

لا يتصل الأمر بطبيعة النظام العسكرى المصفح بالشعار الإسلامى فى السودان.. بل هو يتجاوز السودان الى الأمة العربية جميعا. إن إسرائيل تؤكد ما لا يحتاج إلى توكيد من أنها عدو الأمة العربية جميعا، بمشرقها ومغربها، تعتبر أن هذه السماء العربية مجالها الحيوى المفتوح لطيرانها الحربى، والبحار العربية جميعا المجال الحيوى لغواصاتها ومدمراتها. وهى تقترب من استخراج النفط والغاز من مناطق تتجاوز نطاق «مياهها» الإقليمية.

 

إن التهويل بالخطر الإيرانى قد كشف واحدا من أغراضه عبر الغارة على السودان المنسى والغارق فى مشكلاته الكثيرة والخطيرة والتى جعلها الحكم العسكرى المتستر بالشعار الإسلامى متفجرة.

 

لقد ضرب هذا الحكم الوحدة الوطنية بعد ضربه وحدة التراب الوطنى.

 

كذلك فإن اعتماد القمع أسلوبا وحيدا فى التخاطب مع هذا الشعب السودانى الطيب الذى كان يملك واحدا من انضج المجتمعات العربية وعيا وصفاء فى وطنيته وإيمانا بقضايا أمته العربية بعنوان فلسطين.. هل نسينا قمة الخرطوم، بعد هزيمة 5 يونيو مباشرة، فى الخرطوم والتى جمعت القادة العرب خلف اللاءات الثلاث: لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف، التى باتت الآن نسيا منسيا.

 

●●●

 

مع التمنى ألا يغرى الصمت الرسمى العربى إسرائيل على القيام باعتداءات جديدة على أية دولة عربية تختارها، واثقة أن أحدا لن يرد عليها ولو بتصريح أو ببيان فضلا عن التفكير مجرد التفكير بشكوى إلى مجلس الأمن الدولى، ولو من باب حفظ ماء الوجه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved