فى الذكرى المئوية لوعد بلفور: صورة الواقع العربى يومها.. واليوم!

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الثلاثاء 31 أكتوبر 2017 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

من حق رئيسة الحكومة البريطانية السيدة تيريزا ماى أن تفخر بالذكرى المئوية لوعد بلفور، باعتباره إنجازا تاريخيا للإمبراطورية التى لم تكن تغيب عنها الشمس بمستعمراتها فى أربع رياح الأرض.
لقد أعطى وزير الخارجية البريطانى، آنذاك، اللورد آرثر جيمس بلفور، وعدا لقادة الحركة الصهيونية بأن تمكنهم بلاده العظمى من إقامة «وطنهم القومي» فوق أرض التاريخ فلسطين، وعلى حساب شعبها الذى كان على مر الزمان شعبها، بالأكثرية العربية الساحقة فيه، مسلمين ومسيحيين، والأقلية اليهودية التى لم تتعرض يوما لاضطهاد أو عنصرية أو تمييز بسبب العرق أو الدين.
كان العالم مشغولا بالحرب العالمية الأولى ودول الحلفاء بقيادة بريطانيا ومعها فرنسا وبعض دول أوروبا تقاتل «دول المحور» بقيادة ألمانيا ومعها تركيا التى لم تعد إمبراطورية ولا سلطنة عثمانية، كان الحلفاء يحققون انتصارات ساحقة، خصوصا فى مشرقنا العربى حيث لم تكن ثمة دول، بل ولايات منهكة بالجوع والاستعباد والتجنيد بالقوة فى حرب محكومة النتائج سلفا... خصوصا بعد انضمام الولايات المتحدة الأمريكية إلى «الحلفاء».. تزامنا مع تزايد الحديث عن ظهور أدلة تبشر بنفط غزير فى شبه الجزيرة العربية امتدادا إلى العراق.
فى سياق آخر، وبالتزامن مع مجريات الحرب، كانت بريطانيا قد شجعت الشريف حسين أمير الحجاز على الخروج على تركيا، وإعلان «الثورة العربية الكبرى» والمناداة بالوحدة العربية واستعادة أمجاد الماضى، ليكون ملك العرب جميعا.
***
قد تبدو الصورة كاريكاتورية بتفاصيلها الموجعة: تشجع بريطانيا الشريف حسين على أن ينادى «بثورة» عربية تحررية!! تجعله ملكا على البلاد العربية جميعا، وترسل جاسوسها الشهير توماس إدوارد لورنس ليكون مستشارا للأمير فيصل بن الشريف حسين، فى حملته الدبلوماسية، ثم العسكرية ضد القوات التركية، ثم تنصِّبه ملكا على سوريا وبعض لبنان (ما عدا المتصرفية).. قبل أن تتركه وحيدا فى مواجهة قوات حليفها الفرنسى وهو يطبق على هذه «المملكة» التى استولدت بلا سند أو مقومات جدية.. والتى سيهزم فرنسا جيشها الوليد الذى يقوده ضباط كانوا أصلا فى الجيش التركى قبل أن ينشقوا عنه ليلتحقوا بـ«الجيش العربى» ضعيف العديد والقدرات، ومع ذلك فقد استبسل حتى الشهادة فى ميلسون التى تشهد ليوسف العظمة بالبطولة.
التى عجزت بسلاحها القليل عن مواجهة الجيش الفرنسى القوى والحديث، والذى دخل دمشق ظافرا، بينما أنقذ الملك فيصل نفسه بالهرب، فى القطار الذى كانت أنشأته ألمانيا، إلى البادية السورية ومعها مستشاره لورنس.
ولقد كافأته بريطانيا بعد حين بأن حملته إلى بغداد حيث جعلته ملكا على العراق، فى حين جعلت شقيقه عبدالله أميرا على شرقى الاردن بعد فصل هذه البادية عن «الوطن الأم» سوريا، ليكون سندا لمشروع كان ــ حتى تلك اللحظة ــ طى الكتمان: دولة إسرائيل «وطنا قوميا ليهود العالم» على حساب فلسطين بهويتها وانتماء شعبها.
كان لوعد بلفور، إذن ثمنه العربى: مصر بعيدة، والجزيرة العربية قبائل متصارعة، قبل أن يقرر الغرب (الأمريكى الآن) إعطاء الحجاز ومعها نجد والشرق والجنوب وصولا إلى الظهران والربع الخالى حتى حدود اليمن لآل سعود كى يقيموا مملكتهم والعراق ومعه الأردن فضلا عن فلسطين (تحت الانتداب) لبريطانيا.. أما سوريا ولبنان لفرنسا، بعد تعديل «الحدود»، وضم ما كان يعرف «بالأقضية الاربعة» ــ أى بيروت والجنوب والبقاع والشمال ــ إلى متصرفية جبل لبنان التى كانت «كيانا مستقلا» ضمن السلطنة، ولكنها تحت «الرعاية الغربية»، يعين الأتراك «المتصرف» – المماثل للوالى ــ بشرط أن يكون مسيحيا، من رعايا السلطان العثمانى.
***
صار المشرق العربى أرخبيلا من الكيانات السياسية التى قرر المستعمرون (بريطانيين أساسا وفرنسيين، ثم أمريكيين) حدودها وطبيعة أنظمتها: سوريا ولبنان جمهوريتان، والأردن إمارة هاشمية، والعراق مملكة هاشمية، أما السعودية بأرضها الشاسعة الغنية فاقتطعت لآل سعود بشخص الملك الأول منهم عبدالعزيز آل سعود بشراكة مع المرجعية الدينية للإمام محمد عبدالوهاب (وهو مؤسس الحركة الوهابية التى قاتلتها السلطنة العثمانية وكلفت واليها فى مصر، فى أوائل القرن التاسع عشر، محمد على باشا، بالقضاء عليها.. فهاجم ابنه إبراهيم باشا الرياض وتوجه إلى «الدرعية» مقر الداعية ــ الإمام ومركز دعوته، فدمرها وطارد دعاتها وقتل وسجن وشرد التابعين..).
بعد حوالى القرن، استطاع ورثة سعود الأول، من اتباع محمد عبدالوهاب، أن يهزموا آل الرشيد، وأن يطردوا الهاشميين، وأن ينشئوا المملكة العربية السعودية بقيادة عبدالعزيز آل سعود.. الذى سيلتقى الرئيس الأمريكى روزفلت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، على بارجته الحربية فى قناة السويس، ويعقد معه الاتفاق الذى سيدوم حتى اليوم، ويتعزز مع تفجر تلك الصحارى بالنفط الغزير الذى أهل السعودية لأن تكون أكبر مصدر للنفط بعد الولايات المتحدة الامريكية.
هذه نتف من التاريخ الذى حول أحلام الوحدة، عبر رهان السلاطين والأمراء والشيوخ وقادة الأحزاب من الطامعين فى السلطة، والمستعدين لنقل البندقية من كتف إلى آخر، إلى كوابيس انفصالية وحروب أهلية ودول كرتونية، بعضها يقوم على آبار النفط، وبعضها الآخر على آبار الغاز... ويلغى الدول ذات الدور التاريخى، أو يخفف من ثقلها ومرجعيتها، كمصر أساسا ومعها سوريا. ويفسح المجال أمام دول
لم تكن فى أى يوم دولا، وليست لها لا الشرعية التاريخية ولا الثقل الشعبى ولا الدور الحضارى الذى يضيف إلى تاريخ هذه الأمة، بدلا من أن يشوهه أو يقزمه أو يتسبب فى إخراجها من التاريخ.
من حق السيدة ماى رئيس حكومة بريطانيا، اليوم، أن تعتز بإرث وزير خارجية الإمبراطورية التى لم تكن تغيب عنها الشمس، الذى استندت إليه الحركة الصهيونية، فى تحشيد يهود العالم، واستغلال بعض الوقائع الدموية التى استهدفت اليهود فى بعض أنحاء أوروبا، وفى ألمانيا أساسا بما فى ذلك «المحرقة»، لتبرير «التعويض عليهم» فى البلاد العربية، حيث كانوا «مواطنين» طبيعيين، بينهم أثرياء كبار وتجار معروفون ومثقفون محترمون، يعيشون جميعا بين إخوتهم العرب مسلمين ــ بمختلف طوائفهم ــ ومسيحيين بمختلف طوائفهم ــ دون تمييز أو تفرقة.. وبالطبع دون أى اضطهاد.

***
لقد ثأر الغرب الأوروبى ومعه الولايات المتحدة الأمريكية من الدول التى قاتلتهم فى الحرب العالمية الثانية بقيادة ألمانيا النازية (أدولف هتلر)، فابتلوا العرب الذين كانوا بين ضحاياها بمحنة إقامة الكيان الإسرائيلى فوق الأرض العربية، فلسطين، وعلى حساب الحقوق التاريخية الثابتة لشعبها فيها.
وما زال العرب، بعد قرن من الدمار، يدفعون ثمن وعد بلفور، الذى لم يعرف العالم بنصه ومضمونه وظروف إطلاقه، إلا بعد الثورة البلشفية (الاشتراكية) فى روسيا التى أنهت حكم القياصرة، وكشفت الوثائق السرية المحفوظة فى وزارة خارجيتها، ومن بينها «الوعد الذى أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق»، أى وعد بلفور لليهود بمساعدتهم على إقامة «دولة إسرائيل» على حساب شعب فلسطين (وأهله العرب) وحقه فى أرضه التى كانت أرضه عبر التاريخ.
ومن حق اسرائيل أن تحتفل كل عام بذكرى هذا الوعد الذى «أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق»، تاركة للعرب أن يلعنوا غباء حكامهم أو تآمرهم أو تخلفهم، وكل ذلك قد أدى (وقد يؤدى مستقبلا) إلى التفريط بالأرض المقدسة وحقوق أهلها فيها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved