أن تكون الدولة حديثة - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:01 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أن تكون الدولة حديثة

نشر فى : الثلاثاء 1 يناير 2013 - 8:25 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 1 يناير 2013 - 8:25 ص

فى سياق الحوار الدائر حول طبيعة الدولة التى يرجو المصريون أن تأخذها دولة ما بعد الثورة، تردد مصطلح الدولة الحديثة، بل إن الرئيس الحالى أضفى هذه الصفة على الدولة التى يعد بأن يعمل على بنائها، دون أن يناله ما تعرضت له صفات أخرى من جدل، بما يوحى أن الجميع يقبل، أو على الأقل لا يمانع، فى الاتصاف به. ولعل هذا القبول العام كان من أسباب عدم مناقشة مفهوم الحداثة، رغم أنه مصطلح انشغل بمناقشته مفكرون عديدون منذ أمد طويل، فى معالجتهم لمفاهيم الحداثة وما بعد الحداثة.. ومنهم الدكتور السيد ياسين الذى يواظب على كتابة المقالات وتأليف الكتب حولها. وأعتقد أن أمرا خطيرا يتمثل فى تطبيق صفة الحديثة على دولتنا الجديدة يستحق وقفة.. فمناقشة.. فاتفاقا عاما عليه، لا أن نواصل الحوار والنزاع على هامش القضايا دون الدخول فى مضمونها العلمى والعملى.

 

وأبدأ فأقول أن المقصود بأن تكون الدولة حديثة هو أن تكون مواكبة لآخر التطورات فى الحضارة البشرية، وإن احتفظت بخصوصية الثقافة، وهو ما يعنى بداهة العمل على إعادة تشكيل الثقافة السائدة لكى تتفق مع مساحة عريضة من المعالم الحضارية السائدة والمتوقعة للأجل المنظور. وكجملة اعتراضية أشير إلى أن الموجة الحالية من الحضارة وإن بدت كثمرة لتطور فى الثقافة الغربية القائمة على الديمقراطية الليبرالية، لم تمنع دولا رائدة على المسرح العالمى فى جنوب وشرق آسيا من الانضمام إليها وإن ظلت محتفظة بمقومات ثقافية أساسية جرى تطويرها لتتيح اختيار ما هو مناسب من تلك الموجة؛ ومن ثم فإن ما أسماه صامويل هنتجنتون «صراع حضارات» Clash of Civilizations هو فى حقيقته صراع «ثقافات» Cultures عدّد هو نفسه حوالى ثمانية منها، أغلبها جغرافية وإحداها عقائدية، وهى الإسلامية. وكان الصراع السابق، والذى تلا الحرب العالمية الثانية ثقافى عقائدى بين الرأسمالية والشيوعية فى إطار حضارة غربية واحدة. وهذا ما دعانى فى منتصف الثمانينيات للقول أن العالمين الأول الرأسمالى والثانى الشيوعى سيتقاربان فى النهاية لانتمائهما إلى نفس المضمون الحضارى، على حساب العالم الثالث الذى بدأ يتحول من التعرض للاستغلال إلى الاستغناء عنه كبشر واستبقاء موارده الطبيعية تغذى الإنتاج وتحمى البيئة.

 

وكان التغير الأساسى الذى خلفته الحرب العالمية الثانية هو إدراك أن عصر الاستعمار الاستيطانى الذى سيطرت فيه الدول الصناعية على العديد من بلدان العالم الثالث، تنهب مواردها الطبيعية لتغذى بها مصانعها لتعود فتبيعها منتجاتها، والذى سمح لها بأن تجند رعاياها لتخوض حروبها نيابة عنها، قد ولى، لاسيما بعد أن توالت حركات الكفاح ضد الاستعمار، لعبت فيها مصر الناصرية دورا هاما على الأصعدة الوطنية والعربية والأفريقية. وأصبح الدور الأساسى للدولة الوطنية فى مرحلة التحرر هو تدعيم الاستقلال السياسى باستقلال اقتصادى ينهى الارتباط المشوه بالاقتصادات الاستعمارية، بإقامة صناعات تلبى الحاجات المحلية اعتمادا على الموارد الطبيعية المتاحة، وتقيم مؤسسات الدولة الجديدة  التى تلبى احتياجات الاقتصاد المحلى المتطور، سواء لتكوين الموارد البشرية بالتعليم والتدريب والرعاية الصحية، أو فى الهياكل السوقية وما يلزم لها من تنظيم لحركة التجارة الداخلية بشقيها الجملة والتجزئة والخارجية، ونظام مؤسسى مالى ونقدى يغذى حركة الإنتاج وينمّى المدخرات ويوجهها للاستثمار. وكان لزاما فى كثير من الأحوال أن تتقدم الدولة بذاتها لتحمل الريادة من خلال قطاع عام قادر على تجميع الموارد المالية وإعداد الموارد البشرية والاسترشاد بمعيار تلبية الحاجات الأساسية للأغلبية التى طحنتها ثلاثية الفقر والجهل والمرض، نوعا وسعرا، بعيدا عن مؤشرات أسواق غير مكتملة التكوين تخضع للقلة التى اغتنت فى ظل الاستعمار. وساعدت القواعد السائدة للنظام النقدى العالمى على ترشيد الأسواق المالية العالمية وإدارة النقد المحلى والمحافظة على سعر الصرف. وفى الوقت نفسه أصبحت الدولة مسئولة عن هيكلة علاقاتها الخارجية مع المؤسسات الدولية والإقليمية والدول المختلفة، وعن حماية الأمن القومى، وما يلزم له من قوات مسلحة.

 

غير أن السبعينيات شهدت تطورات اقتصادية ونقدية عالمية عنيفة فطالبت مجموعة عدم الانحياز ببناء نظام اقتصادى دولى جديد فى مواجهة الاستعمار الحديث الذى قادته المؤسسات العابرة للقوميات فى الإنتاج والمال، تحت مسمى الاعتماد المتبادل، وربط التعاون الاقتصادى العالمى بتنمية دول العالم الثالث. ومع ذلك تغولت المؤسسات النقدية العالمية فأوقعت العديد من الدول النامية فى فخ المديونية المفرطة، وتحكمت فى سياساتها الاقتصادية، من خلال ما أطلق عليه توافق واشنطون الذى ركز على إنهاء سيطرة الدولة الوطنية على النشاط الاقتصادى، وأضعف قدرتها على تحمل الأعباء الاجتماعية رغم تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل كل دولة، وما بين الدول. وبينما أدت الثورة التكنولوجية إلى جعل المعرفة المتجددة هى العنصر الحاكم، بما فى ذلك سيطرتها على رأس المال، بعد أن كان المال هو أداة الحصول على المعارف الفنية السائدة، حظيت الملكية الفكرية بحماية تحول دون امتلاك الدول النامية لها، بينما فرضت إزالة العوائق الجمركية على تبادل منتجاتها السلعية والخدمية. فى الوقت نفسه حررت ثورة الاتصالات حركة الأفراد والأموال والسلع عبر الحدود بعيدا عن السيطرة المباشرة للدولة، وتغيرت بذلك مفاهيم الوطنية والأمن القومى.

 

أصبح من الضرورى أن تواجه الدولة الحديثة تحديات المشاركة على قدم المساواة فى بناء حضارة عالمية تتصاعد فيها قوى المؤسسات الاقتصادية والمالية والسياسية الدولية والعالمية والإقليمية، أو على الأقل القدرة على شىء من العطاء دون انتظار أخذٍ لن يأتى إلا بتكبيل للسيادة الوطنية، وإحداث موازنة دقيقة بين دور الفرد وحقوقه وموقعه من المسئولية الاجتماعية والقومية، وإعادة تشكيل منظومتها الثقافية مع المحافظة قدر الإمكان على هويتها الأصيلة، وإلا خرجت من التاريخ بل والجغرافيا أيضا.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات