فى ست قرارات للجمعية العامة للأمم المتحدة، كان آخرها فى 3 ديسمبر الماضى، طُلِب من مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) تقييم وتوثيق التكلفة الاقتصادية التى يتكبدها الشعب الفلسطينى من جراء الاحتلال الإسرائيلى. وبالفعل، فى نفس يوم التصويت على آخر قرار، قدم الأمين العام للأمم المتحدة للجمعية العامة تقريرا يوثق تكلفة الاحتلال المتمثلة فى ضياع المال العام الفلسطينى (A/74/272).
إن تقدير التكلفة الاقتصادية للاحتلال أمر ضخم ومعقد وذو أوجه متعددة ومتشابكة، ولذلك لا يمكن توثيق كل هذه الخسائر فى تقرير واحد، بل يحتاج إلى تقارير عدة لمسح وتقدير وتوثيق تاريخى لكل بند من بنود التكلفة الاقتصادية باستفاضة وتفصيل، ويجب مواصلة إصدار هذه التقارير طالما هناك احتلال يكبد الشعب الفلسطينى تكاليف اقتصادية متزايدة تتراكم يوما بعد يوم وعاما بعد عام.
ولذلك يفيد التقرير إلى أن التكلفة الاقتصادية للاحتلال يجب أن تشمل كل الخسائر الاقتصادية التى تكبدها ويتكبدها الشعب الفلسطينى من اليوم الأول للاحتلال فى كل قطاعات المجتمع والاقتصاد من زراعة وصناعة وتعدين وسياحة وثقافة وصحة وتعليم وموارد طبيعة.. إلخ. أى أنها كل تلك الخسائر التى تسببها منظومة عنكبوتية محكمة من التدابير التى يفرضها الاحتلال الإسرائيلى، ومنها القيود المفروضة على حرية حركة الشعب الفلسطينى والسلع الفلسطينية، وسيطرة إسرائيل على أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية فى ما يسمى بالمنطقة «جيم» وجميع نقاط العبور الحدودية، وحرمان الشعب الفلسطينى من حقه فى استخدام أرضه وموارده الطبيعية وتدمير منازله ومنشأته وممتلكاته، والحصار الاقتصادى المفروض على الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة لأكثر من 12 عاما، وحرمان الحكومة الفلسطينية من السيطرة الحقيقية على إيراداتها ومواردها المالية.
***
ويركز التقرير الذى عُرض مؤخرا على الجمعية العامة للأمم المتحدة على جزء بسيط وجانب واحد فقط من جوانب تكلفة الاحتلال وهو بعض أبعاد التكلفة المالية، أى خسائر الإيرادات العامة الفلسطينية التى تتكبدها الحكومة الفلسطينية من جراء الاحتلال. ويمكن تقسيم تلك التكلفة إلى قسمين: القسم الأول خسائر مالية نتيجة تسرب مال عام فلسطينى إلى الخزانة الإسرائيلية بدلا من وصولها إلى صاحب الحق وهى الخزانة الفلسطينية، وذلك طبقا لنصوص بنود بروتوكول باريس الاقتصادى لسنة 1994 والذى ينظم العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الحكومة الفلسطينية وإسرائيل؛ والقسم الثانى للتكلفة المالية للاحتلال يتمثل فى ضياع إيرادات وأموال عامة كان من الممكن أن تتحصل عليها الحكومة الفلسطينية إن لم يكن الاحتلال موجودا، ولكن لا تتسرب هذه الموارد المالية إلى إسرائيل، بمعنى آخر يمثل هذا القسم من التكلفة المالية للاحتلال الموارد المالية الضائعة على الشعب والحكومة الفلسطينية بسبب الاحتلال والتدابير التى يفرضها على الشعب الفلسطينى فى أرضه المحتلة.
وترجع أسباب التكلفة المالية للاحتلال لقنوات يتسرب أو تضيع من خلالها إيردات ضريبة أو جمركية فلسطينية، فعلى سبيل المثال لا الحصر: لا تتحصل الحكومة الفلسطينية على أية إيرادات من الواردات المهربة من إسرائيل سواء مصنعة فى إسرائيل أو فى بلد آخر، أو من الواردات من السلع التى تدخل الأرض الفلسطينية على أنها مصنعة فى إسرائيل ولكنها فى الأصل مصنعة فى بلد آخر، ولا تتحصل الحكومة الفلسطينية على أية إيرادات ضريبية من أى نشاط اقتصادى فى الأرض الفلسطينية فى المنطقة «جيم»، وكذلك تخسر الحكومة الفلسطينية كما كبيرا من الإيرادات كان من الممكن أن تتحصل عليها من قطاع الاتصالات والهاتف المحمول، ولا تتحصل الحكومة الفلسطينية إلا على قدر قليل من رسوم خروج المسافرين الفلسطينيين والأجانب من الأرض الفلسطينية المحتلة عبر المعابر إلى الأردن والعالم الخارجى، وتضطر الحكومة الفلسطينية لدفع رسوم إدارية مغال فيها إلى إسرائيل نظير تخليص إسرائيل للواردات الفلسطينية (والتى لا مجال لاستيرادها إلا من خلال موانئ إسرائيلية). وبالإضافة إلى ذلك هناك قنوات أخرى كثيرة يضيع عن طريقها المال العام الفلسطينى ولكن لم يتسنى للتقرير أن يحللها ويقدرها.
وتقدر التكلفة المالية التى يتكبدها الشعب الفلسطينى بسبب الاحتلال، على مدى الفترة 2000 ــ 2017، بحوالى 48 مليار دولار أمريكى، أو ما يعادل ثلاثة أضعاف كل ما أنتجه الشعب الفلسطينى طوال عام 2017، وبالطبع تواصل هذه التكلفة فى التراكم، وكان من الممكن لمبالغ التكلفة المالية المتراكمة أن تغطى أكثر من قيمة عجز الميزانية الفلسطينية خلال الفترة المذكورة، والمقدّر بما يقرب من 18 مليار دولار، ليولد فائضا يضاهى ضعف حجم العجز تقريبا، أو كان من الممكن زيادة الإنفاق التنموى للحكومة الفلسطينية، البالغ 4.5 مليار دولار خلال الفترة المذكورة، بأكثر من عشرة أضعاف.
***
وتشير تحاليل المحاكاة لنموذج الأونكتاد للاقتصاد الفلسطينى، والتى تفترض أن الاقتصاد الفلسطينى لم يتكبد تكاليف الاحتلال المالية، بل كانت متاحة للحكومة الفلسطينية وضُخَّت بشكل سنوى فى الاقتصاد من خلال سياسات مالية توسعية، إلى أن الاقتصاد الفلسطينى كان سيولّد مليونى فرصة عمل خلال فترة الثمانية عشر عاما، بمتوسط 111 ألف وظيفة كل عام.
ويشير التقرير إلى أن التسرب المالى والتكلفة المالية يرسخان الهشاشة المالية لدولة فلسطين ويقوضان قدرتها على التخطيط وتمويل التنمية لتوجيه الاقتصاد نحو النمو المستدام أو حتى نحو أى نمو تراكمى، وفى نفس الوقت يؤكد التقرير على أن تقديرات التكاليف المالية للاحتلال تقديرات متحفظة ومنخفضة وغير كاملة، ولذلك هناك حاجة إلى مزيد من البحث والدراسات لتحديد وقياس القنوات الأخرى للخسائر المالية الفلسطينية.
إن إيقاف التكلفة المالية للاحتلال يتطلب تغييرا جوهريا فى العديد من الترتيبات المعمول بها، بما فى ذلك: الترتيبات الخاصة بنقاط العبور الحدودية ووصول المسئولين والموظفين الفلسطينين إلى هذه النقاط وكذلك وصولهم إلى، وممارسة سلطاتهم فى، المنطقة «جيم»؛ وسياسات الاستيراد وآليات مراقبة الواردات؛ وتبادل المعلومات والبيانات والسجلات المتعلقة بالاستيراد. وفى آخر الأمر والأكيد، بطبيعة الحال، أن التكلفة الاقتصادية للاحتلال لن تتوقف إلا بإنهاء الاحتلال وحصول الشعب الفلسطينى على كامل حقوقه.
الرابط للنسخة العربية لتقرير الجمعية العامة
https://documentsــddsــny.un.org/doc/UNDOC/GEN/N19/242/92/pdf/N1924292.pdf?OpenElement
هذا المقال يعكس رؤية الكاتب وليس بالضرورة رؤية المنظمة التى يعمل بها.
اقتصادى بالأمم المتحدة