تفكيك الأوهام عن الضحايا والجلادين - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 4:07 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تفكيك الأوهام عن الضحايا والجلادين

نشر فى : الثلاثاء 1 مارس 2016 - 10:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 1 مارس 2016 - 10:36 م
منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها فى ١٩٤٥، والكثير والكثير من الأعمال الفنية والأدبية والفلسفية والأكاديمية الأوروبية يناقش النتائج النفسية والذهنية لخبرات العنف والقمع والاضطهاد على الضحايا كما الجلادين. لم تتوقف النخب المثقفة فى أوروبا عند الأطروحات العامة بشأن طبيعة الحكومات القمعية وأسباب بقائها كما عوامل انهيارها. بل تجاوزت ذلك إلى التفكير والبحث فى تفاصيل حياة ضحايا المظالم والانتهاكات، وحياة الجلادين الذين يتورطون فى إنزال الظلم بغيرهم .

خلال العقود الماضية، لحق بالنخب الأوروبية نخب المستعمرات الأوروبية السابقة فى القارتين الآسيوية والإفريقية . وبالمثل لحق بالأوروبيين مثقفو أمريكا اللاتينية الذين أبدعوا فنا وأدبا وكتابات فلسفية وأكاديمية تبهر فى تشريحها لثنائيات الضحية والجلاد.

أما فى مصر وبلاد العرب، فطويلا ما تجاهلت النخب المثقفة حتمية الانتقال من عموميات الحديث عن خبرات القمع والظلم والاضطهاد إلى مناقشة ما تحدثه بالبشر ضحايا وجلادين، وما تلحقه بهوياتهم وبنظرتهم إلى ذواتهم وإلى الآخرين فى مجتمعاتهم. باستثناء عدد محدود من الأعمال البديعة مثل «موسم الهجرة إلى الشمال» للأديب الطيب صالح والكتابات الأكاديمية المتميزة ككتابات إدوارد سعيد التى تناولت بالتحليل العلاقة بين المستعمر الضحية والمستعمر الجلاد، وعدد أقل من الأعمال الفنية كبعض الأفلام الروائية التى صنعها المخرج عاطف الطيب واهتمت بالعلاقة الأخلاقية والإنسانية المركبة بين الضحايا والجلادين، وكتابات أصدرها فى السنوات الأخيرة فلاسفة ومؤرخون وأدباء من بلدان المغرب العربى حول المتبقى من إرث الاستعمار الأوروبى فى الثقافة والفكر واللغة وحول استتباع المجتمع ونخبه من قبل الحكومات السلطوية؛ لن نعثر فى سجلاتنا المصرية أو العربية على إبداعات وأعمال تساعدنا على فهم حقائق القمع كما تتنزل فى عالم الضحايا والجلادين واقعا يوميا.

مصريا، ولأن المظالم والانتهاكات فى تصاعد مؤلم وقوائم الضحايا والجلادين بالتبعية فى اتساع يدمى نطاقه الراهن، نحن فى معية لحظة مناسبة لإنتاج فن وأدب وأعمال فلسفية وأكاديمية تتجاوز عموميات حديثنا عن القمع والظلم والسلطوية. ولأننى حاولت خلال الفترة الماضية تجاوز الحديث العمومى وتشريح الواقع اليومى للقمع ثم ألفيت نفسى بين الحين والآخر مفتقدا للقدرة على الابتعاد عن العموميات، أزعم أن المطلوب اليوم هو الجهد الجماعى لتوثيق ما يحدثه القمع بنا كضحايا وجلادين.
  
بإيجاز، لا يغادر من تسلب حريتهم ويلقون وراء أسوار السجون وأماكن الاحتجاز كما دخلوها. ويجافى المعروف والموثق من خبرات عالمية تتشابه مع أوضاعنا أن نفترض أن من يتورطون فى تنفيذ القمع والعنف والتعذيب وانتهاكات أخرى يحتفظون بإنسانية «سوية»، حتى عندما يكونون مجرد «موظفين» يتلقون أوامر الأجهزة الأمنية ويصدقون الحكومات التى تبرر القمع. ويجافى الصواب العلمى أيضا أن نروج لوهم تمتع المدافعين عن الحقوق والحريات بقدرات «بطولية خارقة» تمكنهم من مواجهة القمع والتغلب على الخوف أو لأسطورة استعدادهم الدائم «للتضحية الذاتية»، فالحقيقة هى أن الضعف والخوف والرغبة فى النجاة الشخصية هى مشاعر إنسانية عميقة التأثير ومقاومتها تستدعى اعتراف الإنسان بوجودها والعمل الجماعى مع مدافعين آخرين عن الحقوق والحريات على احتواء آثارها دون ادعاء بطولات زائفة أو تورط فى مزايدات كلامية.

نحتاج إلى فنانين وأدباء وفلاسفة وأكاديميين، إلى مبدعين وعلماء، إلى توثيق حقائق القمع كما نختبرها ضحايا وجلادين. نحتاج إلى فهم ما تحدثه بنا وبهوياتنا بعيدا عن العموميات والمزايدات، وإلى التيقن من قدرتنا الأخلاقية والإنسانية على الشفاء من شرور القمع لكى لا نغرق فى ظلامية دوائر عنف وانتقام وكراهية لا تنتهى. نحتاج إلى حديث للضحايا عن خوفهم وحديث للجلادين عن عذاب الضمير والعقل. شاهدوا الفيلم المجرى «ابن ساول»، الحائز على أوسكار أحسن فيلم إجنبى لعام ٢٠١٦، لتدركوا أهمية الأمر.
عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات