حديث البدائل - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:08 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حديث البدائل

نشر فى : الخميس 1 أبريل 2010 - 9:36 ص | آخر تحديث : الخميس 1 أبريل 2010 - 9:36 ص

 كانت قمة العرب فى سرت فرصة من الفرص الدورية العربية التى يحب المسئولون العرب استغلالها ليطلقوا على مسامع الأمة ومسامع الغرب وإسرائيل الزعم أنه لا بدائل لديهم لخيار السلام، وفى القصد طبعا خيار الوضع القائم الساكن لعقود طالت، متجاهلين حقيقة أن الخيار، أى خيار، حين يتحجر لا يعود خيارا، وإنما طريق مسدود، والاستمرار فى الوقوف فيه رغم انسداده يعنى بالنسبة لمن يهتم ويتابع أن الواقف مشلول فى الإرادة أو الحركة. وأخشى أن صاحب الخيار الأوحد إنسانا كان أم نظاما ينتهى به الأمر فاقدا الإحساس بالوقت ومعرض لأن يتحول تجاهله للخيارات الأخرى إلى جهل بها نتيجة استمراره فى إنكار وجودها.

سمعت موظفا صغير المكانة فى وزارة خارجية عربية يوبخ صحفيا شابا أخلص فى الاستفسار عن احتمال أن يفكر المسئولون العرب فى بدائل فى حال بلغهم خلال مؤتمرهم أن إسرائيل قررت الصمود فى عنادها واستمرت فى رفضها المبادرة العربية وعاندت الرئيس أوباما. أقول أخلص الصحفى حين كان ينقل سؤالا يسأله الكثيرون فى مواقع الإعلام والتشريع والتدريس الجامعى ومراكز الدراسات، بل ويسأله دبلوماسيون سئموا جمود الدبلوماسيات العربية وضيق أفقها، كل هؤلاء، وبكل ما لديهم من اهتمامات بالشأن الوطنى وشعور بالاختناق السياسى والقلق، يسألون بالأصالة عن أنفسهم، وبالنيابة عن الشارع العربى الذى تعالى عليه المسئول الصغير وسخر منه فى رده على الصحفى الشاب. ليته يعلم أن هذا الشارع الذى اتهمه بالجهل الدبلوماسى العربى كبير المقام والتأثير داخل وزارته هو الشارع نفسه الذى تحدث عنه باحترام الجنرال بيتريوس فى رسالته إلى الرئيس باراك أوباما التى طالبه فيها بالتدخل سريعا لإنهاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية، لأنه حسب قوله «يخشى على جنوده المنتشرين فى العالم العربى»، فى اعتراف صريح بتفاقم الغضب فى الشارع العربى.

ينطلق السادة المسئولون العرب، وبينهم قادة أحزاب حاكمة ومثقفون فى مناصب إعلامية كبيرة، من قاعدة أن كل سائل فى البدائل إنسان خبيث لأنه لا يذكر صراحة أن هدفه أن «يدفعنا نحن المسئولين لنتخلى عن مسئولياتنا تجاه شعوبنا وحلفائنا ونندفع نحو بديل الحرب»، وبما أن السائل فى نظر المسئولين العرب خبيث فالواجب يحتم عليهم أن تكون إجاباتهم قاطعة وواضحة وصريحة.» لا... لا بدائل ولا تفكير فى بدائل. والخيار الذى وقع اختيارنا عليه نهائى وغير قابل للنقاش وليذهب الخبثاء إلى الجحيم.»

ينسى المسئولون العرب الرافضون لحديث البدائل أمرا مهما، وهو أنهم برفضهم الحاسم للبدائل والتفكير فيها إنما يكشفون للملأ أنهم دخلاء على السياسة لا يعرفون معناها ولا يفهمون أصولها وقواعدها، ويثبتون أنهم لم يتعلموا شيئا رغم طول احتلالهم لمقاعد سياسية. كادوا بإصرارهم على رفض حديث البدائل أن يعترفوا أنهم لم يقرأوا كتابا فى السياسة كلاسيكيا أو معاصرا، لو أنهم قرأوا أو مارسوا شيئا من السياسة كما يجب أن تمارس لعرفوا أن أولى وظائف السياسى «الاختيار بين البدائل»، وثانيها «كفاءة توزيع الموارد». فإذا تجاسر مسئول سياسى كبير أو صغير وقال عن موقف ما أن لا بدائل له، أو كان جريئا وقال أن لا موارد لدينا تسمح بتغير خيار تأكد فشله، فإنه يكون قد عرض نفسه لمحاكمة هى قائمة بالفعل، كما نرى فى غضب المواطنين المتصاعد، أو قادمة بالفعل، كما يتوقع جنرالات أمريكا وسياسيوها وعلماؤها ويحسبون حسابها من الآن. وبخاصة بعد أن تسرب ما تسرب عن حجج استخدمها أوباما فى المواجهة مع نتنياهو ومنها حجة تهديد الاستقرار السياسى فى دول عربية وأولها مصر وما يعنيه هذا التهديد من عواقب وخيمة على توازنات القوى فى الشرق الأوسط وآسيا.

*******

فى مقابلة مع مسئول من دولة من دول الجوار التى يقترح عمرو موسى أن تكون عضوا فى منظومة جديدة تجمع بين العرب وغير العرب من الجيران، أعرب الجار عن دهشته لهذا التحول المفاجئ فى «فكر «الجامعة العربية باعتبارها الناطقة باسم العمل المشترك والممثلة للنظام العربى واستطرد يحلل هذا التطور فى ثلاث نقاط:

الأولى، أن هذه الفكرة لم تكن ليعلن عنها إلا لو كانت العواصم العربية، أو أغلبها، على الأقل، قد توصلت إلى الاقتناع بأن النظام العربى الذى عاش سنوات فاقدا «قيادة للتسيير» واستعذب هذا الوضع لن يقبل بأن تخرج من صفوفه مرة أخرى دولة أو مجموعة من الدول تحتل مقاعد التسيير والقيادة. بل قد يسعى لتفويض دولة أو تحالف من دول الجوار أو الغرب بتولى هذه المهمة ومنع وصول طرف عربى إلى هذه المواقع.

*******

الثانية، أن التبشير بضرورة قيام نظام إقليمى جديد أو شكل مؤسسى جديد تجتمع فى إطاره وتنتظم جهود الدول العربية وبعض دول الجوار، يأتى فى ظل اقتناع مماثل، وإن قديم العهد، من جانب المؤسسة العسكرية الأمريكية ومن خلالها المؤسسة السياسية الأمريكية، بأن إستراتيجية الدفاع عن الشرق الأوسط لا تتوقف ولا يجوز أن تتوقف عند الدول العربية فى الخليج وبلاد ما بين النهرين أو عند شمال حلب واللاذقية أو عند الصحراء الغربية ودارفور ووسط السودان. إن الوجود المتصل للقوات الأمريكية فى حروب فى الشرق الأوسط دامت سبع سنوات ولم تنته، أى دامت مدة أطول من أى مشاركة أمريكية فى حرب عالمية خلال قرنين، بل أطول من مجمل مشاركة أمريكا فى الحربين العالميتين معا. هذا الوجود المستمر فى العراق «دولة عربية» وأفغانستان «دولة آسيوية»، والترتيب لحصار أو غزو إيران» دولة جوار للعرب»، دليل على عمق نظر العسكريين الأمريكيين وعلى عمق نظرتهم منذ أن اقترحوا خلال الحرب العالمية الثانية إقامة «مساحة إستراتيجية شرق أوسطية»، ودليل على عدم جدوى التمسك بالحدود الإستراتيجية القائمة بين العالم العربى والدول المجاورة، بل وربما دليل على خطورة هذا التمسك على الأمن القومى الأمريكى وأمن دول الشرق الأوسط. ويعتقد الصديق القادم متحفزا ومتأهبا من دولة جارة أن هذا المنطق العسكرى تسرب فصار جزءا من قناعات عدد من المسئولين العرب، وبعضهم بدأ يتخذ من الإجراءات ما يسمح لقوات أمريكا والحلف الأطلسى بدمج خططه الأمنية فى خطط أجنبية لا تتمسك بالحدود القائمة بين عرب وغير عرب.

*******

الثالثة، خطورة المأزق الذى استدرجت إليه الطبقة الحاكمة العربية حين انصاعت إلى «إستراتيجية اللا بديل» التى تضمنها المشروع الأمريكى لإقامة سلام أمريكى ــ إسرائيلى فى الشرق الأوسط. اعتمد المشروع على عنصرين أساسيين أولهما حرية إسرائيل المطلقة فى اختيار البدائل بشرط عدم المساس بمصالح الأمن الأمريكى. هكذا وبفضل توفر هذا العنصر، نجحت إسرائيل فى تصنيف العرب صنفين، صنف يتعرض للتهديد والعدوان وصنف يتفرج محكوما ومقيدا بالخيار الأوحد. واستفادت من هذا التصنيف مع احتفاظها بحقها استخدام خيارات متنوعة حين استمرت مع أمريكا تفاوض بعض العرب وفى الوقت نفسه تشن حروبا ضد البعض الآخر مثل قصف المفاعل العراقى وغزو لبنان وتجربة حرق غزة وشن عمليات شبه حربية فى الإمارات، أما العنصر الثانى الذى استند عليه مشروع السلام الأمريكى الإسرائيلى للشرق الأوسط فكان، وما زال، حرمان الدول العربية، وبخاصة مصر، من حق توليد بدائل للاختيار بينها. أدى هذا الحرمان أو التحريم إلى تقليص ثم حذف أدوار تقليدية كانت مصر تباشرها فى المنطقة وجوارها كما أدى إلى حشر مصر حكومة وشعبا فى أنشطة محدودة الأبعاد وبطيئة العائد وباهظة التكلفة وبخاصة فى المجالين الدينى والقومى.

*******

الرابعة، تسبب الاختلال فى ميزان البدائل فى الصراع العربى الإسرائيلى فى أن يتجه بعض المفكرين العرب، وأيضا غير العرب، إلى التفكير فى إمكان الالتفاف حول القيود الموضوعة فى مشروع السلام الإسرائيلى الأمريكى على حرية البحث عن بدائل أو خلقها باللجوء إلى دول فيما يسمى بالجوار العربى مثل تركيا وإيران.

*******

أتمنى أن يدرك هذا البعض الباحث عن تعويض لسد النقص فى البدائل أن الاعتماد على دول الجوار لن يكون كافيا لاستعادة القدرة على صنع بدائل، بل قد يضيف إلى العجز القائم يأسا وتبعية لا ينقصانا.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي