فتاة المصنع - كمال رمزي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فتاة المصنع

نشر فى : الثلاثاء 1 أبريل 2014 - 6:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 1 أبريل 2014 - 6:07 ص

تذكرت، على نحو حميمى، قصيدة صلاح عبدالصبور «الناس فى بلادى»، ومطلعها «الناس فى بلادى جارحون كالصقور ــ غناؤهم كرجفة الشتاء، فى ذؤابة الشجر ــ وضحكهم يئز كاللهب فى الحطب ــ خطاهم تريد أن تسوخ التراب ــ ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشئون ــ لكنهم بشر».. هكذا، لأن شاعرنا المرهف، منذ ما يقرب من الثلاثة أرباع قرن ــ 1957 ــ يبدو كأنه يجسد أحوال الأهالى، فى أحدث أفلام الراسخ، الصارم فى جديته، العابث فى مزاحه، السبعينى المتقد بروح الشباب، الطموح صاحب الإنجازات المتلألئة، محمد خان.

الحارة التى تسكنها بطلتنا هيام ــ ياسمين رئيس ــ ليست عشوائية، فقط موغلة فى القدم، شعبية، بيوتها متداعبة، ضيقة، خانقة، متساندة إلى بعضها، تماما مثل قاطنيها، يعيشون مع بعضهم بعضا، بحكم الصورة، تندلع الخلافات بينهم، تتحول إلى مشاجرات، خصومات، عداءات، لكن الحياة لابد أن تستمر، والعلاقات المتوترة تظل على حالها، هنا، شقق صغيرة، قليلة الأثاث، تعبر عن أوضاع أصحابها.. الفيلم أكبر وأوسع وأعمق من حكاية «هيام»، العاملة فى مشغل ملابس، ترنو بآمالها نحو المشرف الشاب، المهندس صلاح ــ هانى عادل ــ ابن الطبقة الأعلى منها درجة السلم الاجتماعى، فهو، ابن ما تحت الطبقة الوسطى، أى أن الفارق بينهما ليس واسعا، ومع هذا، فى مواقف قليلة، يظهر الاستعلاء الطبقى جليا، فى موقف والدته المتعجرف من «هيام».. محمد خان، مع كاتبته المتمكنة، وسام سليمان، بطريقة، يروى العديد من القصص، بطريقته المختزلة، الموحية، التى تبدو الواحدة منها، كرأس جبل الجليد العائم، تخفى أكثر مما تظهر، ولكن تعبر عن حجم الحكاية. فمثلا، تدور معركة كلامية، تنذر بعاقبة سيئة، بين زوج والدة هيام، الضئيل الجسم، وأحد جيرانه، بسبب عربة نصف نقل، متشاركان فى ملكيتها، وبمعلومة واحدة، وهى أن السيارة لا تحقق ربحا، ندرك أن الرجلين البائسين، دخلا فى مشروع فاشل، جعلهما يضيقان ذرعا بالشراكة وبالحياة.. كذلك فى مشهد واحد، نرى، من وجهة نظر «هيام» الواقفة فى الشرفة، المهندس، المتهم بالتسبب فى حملها الكاذب، مضروبا، متورم الوجه، ممسوكا كاللصوص، يجرجره أعمامها.. طبعا، لم نشهد كيف ذهبوا له، وكيف استدرجوه، ومتى انهالوا عليه باللكمات، فعند محمد خان، لقطة واحدة تكفى، وتبين أن الناس، فى لحظة ممكن أن يتحولوا إلى صقور جارحة.. ينتهى الموقف بواحدة من دعابات خان: «هيام»، تضغط على سور الشرفة التى تعلم أنه متآكل. تسقط معه، لكن حبال غسيل الدور السفلى تنقذها من الموت.

رءوس جبال الجليد العائمة، لا تتناثر فى الفيلم على نحو عبثى، فبينها وشائج تخدم بعضها بعضا، فمثلا، ها هو زوج الأم، فى موقف لاحق، يبنى سور الشرفة، مستبدلا الأخشاب بقوالب الطوب، مما يعنى أن هؤلاء المنسيين، يملكون القدرة على ترميم حياتهم.

شطر كبير من الفيلم، يدور داخل المشغل، تتجلى فيه واقعية محمد خان الناعمة، فبعيدا عن الشاعرية، أو الخشونة، تطالعنا وجوه الشابات العاملات، بطموحاتهن الصغيرة، المشروعة، كالحصول على حوافز الإنتاج، أو قضاء نهار فى رحلة إلى شاطئ البحر.. وبإشراق، يسترسلن فى حلم ذلك الزوج، الفارس، الذى ينقل الواحدة منهن، من حال لحال، إن حظهن ضنين، يقتاتون بالأمل.

ببراعة، اختار محمد خان، نماذجه البشرية. كلها قادمة من قلب الحياة، يتمتع أداؤهم بقدر كبير من العفوية الطبيعية، سواء من المحترفين، سلوى خطاب، وأختها فى الفيلم، سلوى محمد على، بنقارهم الدائم، أو من غير المحترمين، مثل المرأة العجوز، البدينة، التى أدت دور الجدة القاسية، الأنانية، ذات النزعة الوحشية، إنها مذهلة تبدو كما لو أنها تكره الجميع، ربما بسبب وفاة ابنها واقتران زوجته ــ سلوى خطاب ــ برجل آخر.. وها هى الجدة، كالصقر، تنقض على حفيدتها، هيام، المكبلة، لتدهس وجهها بقدمها، وتقص شعرها، بلا تردد.. إنها تعطى للفيلم مذاق الحقيقة.

يستدرجنا محمد خان، فى لعبة من ألاعيبه، إلى الظن بأن بطلتنا، بعد انقطاع الدورة، حامل من المهندس، لكن، عقب ذهابها للمستشفى، إثر سقوطها من الشرفة، نعلم أنها لا تزال عذراء.. وندرك أن الدورة لم تنقطع إلا بسبب الأنيميا، وسوء التغذية.

فى مشهد جميل، مصرى تماما، تلقى سلوى خطاب بشعر ابنتها فى النيل، وهى تترنم بالدعاء: يا كبير، يا نيل يا كبير، ادى لبنتى شعر طويل.. وتواصل تغنيها، كما لو أنها تلخص أسلوب الفيلم، فى تدفقه النهرى، وقدرته على البقاء والاستمرار والعطاء، برغم العناء.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات