الأزهر والبابا والسَّامِريُّ الصالح - داليا سعودي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:42 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الأزهر والبابا والسَّامِريُّ الصالح

نشر فى : الإثنين 1 مايو 2017 - 9:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 2 مايو 2017 - 12:50 م

لن ينسى التاريخ تلك الصورة التى تصدرت صحف العالم وظهر فيها إمامُ الأزهر الشريف وبابا الفاتيكان وقد تعانقا فى مودة صادقة. فبعض الصور تبقى رموزًا فى الذاكرة البصرية للأمم. ولن ينسى التاريخ مبادرة الشيخ أحمد الطيب لدعوة البابا فرنسيس الثانى لحضور «مؤتمر الأزهر العالمى للسلام» على أرض الكنانة.. فبعض المبادرات تُسقط حواجزَ وتمد جسورًا وتصحح مسارات.. يحب المشككون أن يهزوا ذلك اليقين، وأن يجروا تلك اللحظة المفعمة بالقيم الإنسانية النبيلة إلى أوحال السياسة وخانات العصبيات الضيقة.. لكن اللحظة كانت مضيئة عالية تفيض سماحة وتأتلق بالدلالات.

 

 •••

 في لحظة تنهال فيها الحجارة على مؤسسة الأزهر، وتُقام فيها الدعاوى لعزل إمامه الأكبر، وتحاك فيها التشريعات فى البرلمان لتسهيل عملية الانقضاض، وتنادى فيها حناجر بإغلاق جامعة الأزهر، منارة مصر ذات النيف وألف عام، فى لحظة تُسن فيها السكاكين، وتُنتَخب فيها المقصلة، يتقدمُ حَبرُ الكنيسة الكاثوليكية الأعظم فى ردائه الأبيض الناصع، يمشى الهوينا، يصافح بابتسامته الجليلة الحضور، لسان حاله: نعم أنا أول رئيس للعالم الكاثوليكى يدخل إلى مشيخة الأزهر، مُقرًا بمكانتها وبمكانة مصر. نعم أيها العالم المصطف أمام الشاشات، مازالت مصر هى أرض الحضارة العريقة النبيلة التى استقبلت بالأمس البعيد العائلة المقدسة، وتَلقى جبلُ العهدِ فى طور سيناء وصايا السماء، مازالت هى على الرغم من سنواتٍ عجاف، وما زال الأزهر الشريف، على الرغم من كل ما أصابه، هو الأصلح لإطلاق رسالة سلام عالمية تنبذ العنف والإرهاب باسم كل الأديان.

 •••

 وقد كان فضيلة شيخ الأزهر ورئيس مجلس حكماء الإسلام قاطعًا فى إدانة العنف وتبرئة الإسلام من تهمة الإرهاب وهو يدعو في ثباتٍ لا يعرف لحن القول إلى العمل على «تنقِية صورة الأديان مِمَّا عَلِقَ بها من فهومٍ مغلوطةٍ، وتطبيقاتٍ مغشوشةٍ وتَديُّنٍ كاذبٍ يُؤجِّجُ الصِّراعَ ويبث الكراهية ويبعث على العُنف.. وألَّا نُحاكِم الأديان بجرائمِ قِلَّةٍ عابثةٍ من المؤمنين بهذا الدِّين أو ذاك».
لم تفته إدانة كل أشكال إرهاب العقائد والأنظمة والحضارات، ليخلص إلى فلسفة إنسانية متكاملة تسعى لإدراك فردوس السلام العالمى المفقود عبر قراءة نقدية لكل أنساق الخطاب المنحرف، والوقوف بقوة فى صف الإنسانية المعذبة مع إصرار مخلص على ثقافة الحوار والعيش المشترك. وهى ثقافةٌ باتت مفتقدة للأسف فى بر المحروسة.

 •••

 تتحرك أفواج أقباط مصر النازحين المهجرين من شمال سيناء، وتتوالى جرائمٌ دامية فى البطرسية والمرقسية ومارجرجس، ويصعد للسموات شهداءٌ أبرياء، فيتعالى نداء البابا فرنسيس من على منصة الأزهر: «لنكرر «لا» قويّة وواضحة لأيّ شكلٍ من أشكالِ العنف، والثأرِ والكراهية يُرتكب باسم الدين أو باسم الله. ولنؤكد سويّا استحالة الخلط بين العنفِ والإيمان، بين الإيمان والكراهية. ولنعلن معًا قُدُسيّةَ كلّ حياةٍ بشريّة ضدّ أى شكلٍ من أشكال العنف الجسدى. (..) لِنَقُل دائما: كلما ننمو فى الإيمان بالله، كلما ننمو فى محبة القريب!».
قد حدد البابا فرنسيس ثلاثة توجهات أساسية من شأنها أن تساعد فى الحوار بين الحضارات: ألا وهى «ضرورة الهوية، وشجاعة الاختلاف، وصدق النوايا». وهى توجهات لو تم العمل بها فى بلاد الشمال المستقبلة للاجئين لما وَجد أمثالُ مارين لوبن وخيرت فيلدرز ودونالد ترامب رواجًا لأفكارهم العنصرية، ولساد مبدأ احترام الآخر ومحبة القريب.

 •••

 لكن باب محبةِ القريب بابٌ أثير على قلب الحبر الجليل. فقُبيل وصوله إلى مصر بيوم واحد، حاجَّا من أجل السلام، ألقى البابا فرنسيس محاضرةً قيمة لمنصة TED TALKS ، لخص فيها خطوطا عريضة من فلسفته الإنسانية الرحبة، أحسب أنها تؤطر الزيارة وتضيف إليها وإلينا معانٍ عميقة.
فهى توجه إلى مستمعيها رسائل ثلاث، تُفيد أولاها بأنه لن يسعنا بناء المستقبل إلا بالوقوف معا جميعا. فالسعادة هبة ناتجة عن الانسجام بين جميع عناصر المجتمع الإنسانى.
أما الرسالة الثانية فوصفها بأنها عن «ثورة الرأفة» نستخدم فيها «أعيننا لرؤية الآخر، وآذاننا لسماع الآخر. وللإنصات كذلك للبكاء الصامت لوطننا المشترك الجريح».
أما الرسالة الثالثة، فوجهها للأقوياء: «كلما كنتَ أقوى، كلما أصبحتَ مطالبا بالتصرف بتواضع أكثر. إن لم تفعل، ستدمّرك قوتك، وبالتالى ستدّمرُ أنت الآخرين بدورك، إذا لم يرافق قوّتك التواضع والرأفة».
ضرب البابا مثلاً بقصة السامرى الصالح الذى انبرى لإغاثة رجل من بنى خصومه حين رآه بين الحياة والموت على قارعة الطريق بعد أن هاجمه اللصوص. فداواه وآواه حتى اتخذه المسيح عليه السلام نموذجا للإيمان : «أن تحب قريبك كنفسك»! وكأنها كلمات الحبيب محمد في حديثه الشريف: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».

 •••

 تعيدنى كلمات نبى الإسلام إلى الأزهر، لأتبين فى حادثات اليوم مفارقة. ففى زمن من الأزمنة، أراد الرئيس جمال عبدالناصر إضفاء لمسة علمانية على جامعة الأزهر فتقرر افتتاح الكليات العلمية بها لمزيد من إحكام السيطرة وفرض الإرادة على كليات دينية كان لها آنذاك سلطةٌ حقيقية على العقولِ والقلوب. أما اليوم، فالاتجاه المطروح يدعو إلى إلغاء الكليات العلمية فى جامعة الأزهر، فى توجه يجافى المنطق المناوئ لتنامى ما قد يوصف بأنه فكر متشدد. لكن المرجو أن يكون النجاح العالمى الذى أحدثه مؤتمر الأزهر للسلام قد ألهمنا رشدنا لاستنقاذ الأزهر من وابل السهام النارية التى تتقصد قلعته، لأن أى مساس بهذه القلعة المصرية العريقة سيكون أشبه بفعلِ ذلك الغر أوديب الذى تخلص من أبيه، ثم اقتلع لفرط الندم عينيه.

 •••

 عودةً إلى الفوتوغرافيا.. تُرى فيما كان يفكر البابا فرنسيس فى تلك الصورة البديعة التى بدا فيها مُطرقا متأملا أمام النيل؟ لعله كان يفكر فى مقولة هيرودوت الشهيرة أن «مصر هبة النيل». ولعله أكمل المقولة فى خاطره قائلا: إنها أيضا هبة الأزهر الذى بقى على احترامه لمبدأ التعايش مع الكنيسة الأرثوذوكسية العريقة وأقباط مصر الكرام.

•••

أحب أن أرى الأزهر فى تلك الصورة البهية الزكيّة، لإيمانى بمقدرته على لعب دور السامرى الصالح، وعلى مراجعة بضع أفكار تسللت إليه هنا أو هناك، أو استرجاع شىء من هيبة هاربة هنا أو هناك...
أحب ذلك.. وبعضُ الحبِ تَمنٍّ ورجاء...

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات