فالسلاطين كثير - أيمن الصياد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فالسلاطين كثير

نشر فى : الأحد 1 ديسمبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأحد 1 ديسمبر 2013 - 12:55 م

قبل حوالي العام، ذكّرنا «زميل التجربة» محمد عصمت سيف الدولة بما كان قد كتبه قبل عقد من الزمان المستشار الراحل يحيى الرفاعى، شيخ القضاة ومؤسس تيار الاستقلال معلقا على خطر سيطرة السلطة التنفيذية على القضاء: «فى بعض بلاد العالم يصبح القاضى المتمسك باستقلاله كالقابض على الجمر ... فلا يستطيع ان يعلن حكما تستاء منه الحكومة قبل ان يراجع نفسه الاف المرات، فليس صحيحا على اطلاقه انه لاسلطان على القضاء الا للقانون وضمائرهم، فالسلاطين كثير....»

تذكرت ما قاله الرئيس الأسبق لنادي القضاة .. وتعوذت بالله. إذ أعرف، وتعلمت ممن أعرف من القضاة، أن لا ينبغي أن يكون عليهم سلطان غير الضمير والقانون. وأنه إذا «تعددت السلاطين»، لا تضيع العدالة فقط، بل يفقد المجتمع أهم عناصر تماسكه «واستقراره»؛ أن يشعر الناسُ أن هناك من يمكنهم أن «يطمئنوا» الى حيدته وعدله فيحتكمون اليه في نزاعاتهم، وخصوماتهم. (عدد القضايا المنظورة أمام المحاكم في مصر التسعين مليونا قد يصل الى ٣٠ ألف قضية يوميا).

أقدر استقلال القضاء، ولا أعطي لنفسي الحق في التعليق على إجراءات قانونية طالت هذا أو ذاك «من رجاله»، أو على أحكام لهذه الدائرة أو تلك، مهما بدا فيها مما أستوقف القاصي والداني. ولكني أعرف أيضًا أن النظام القضائي المصري جعل للتقاضي درجات، ليسمح للدرجة الأعلى أن تصحح ما قد تراه من "عوار" في الاستدلال أو التسبيب شاب هذا الحكم أو ذاك.

قضية استقلال القضاء «ومهابته» قضية قديمة. وكمواطن «صاحب مصلحة» في الحرص على هذا الاستقلال وتلك المهابة، أرجو من أصحاب المقام الرفيع أن يسمحوا لي بتدوين ملحوظات ثلاث على هامش أوراق «القضية القديمة». بدت لي هوامش ذات صلة.

•••

(١)

حرص القضاة على استقلالهم قديم، إذ نذكر مثلما يذكرون ما كان في سبعينيات القرن الماضي بين المستشار محمد وجدي عبد الصمد رئيس نادي القضاة وأنور السادات رئيس الجمهورية (رحم الله الراحلَين)، حين وقف القاضي أمام جمع من رجال الدولة، يتوسطهم الرئيس ليسجل إعتراض القضاة «جميعهم» على محاولة السلطة التنفيذية (وأداتها التشريعية) الافتئات على مفهوم العدالة «العمياء» بإصدار قوانين تستهدف أشخاصا بعينهم. يومها قال القاضي للرئيس أنه «ما لم يقم على شؤون العدالة قضاة فوق الخوف وفوق كل ملامة، فإن الأمر ينتهي أن تسود قوة السلاح وشريعة الغاب فتتأخر الأمم بعد تقدم وتفتقر بعد غنى وتضعف من بعد قوة. ومن ثمة كان الحرص على استقلال القضاء كسلطة وتوقير القضاة كأفراد وإحاطتهم بكل الضمانات وتأكيد مبدأ الشرعية وسيادة القانون».

•••

(٢)

أن الفقه الديموقراطي عندما استن «حصانة القضاء» ضمانا لاستقلالهم، لم يكن ذلك مزية لهم أو «ريشة على رؤوسهم» كما تَقَول البعض للأسف، بل فقط لكون ضمان استقلالهم في أحكامهم ضمانة لأن يحصل المواطنون على حقهم في أحكام عادلة، لا يذعن فيها القاضي سوى لضميره ونص القانون. ومن ثم ضمانة لأمن المجتمع واستقراره.

يبسط طارق البشري الأمر في مقالين كان قد كتبهما في «وجهات نظر» (مارس ٢٠٠٣، ويونيو ٢٠٠٥) فيقول: «عندما تجلس علي منصة قضاء، ويقف أمامك الخصوم بمنازعاتهم يتجادلون ويتخاصمون، وكل يرد علي الآخر حجته، تعرف أنهم لم يتفقوا علي شيء قط إلا أنهم يطمئنون إليك، وأنهم يثقون في أنك بالاقتناع وحده، ستحكم لأحدهما بما يدعيه علي الآخر. وإذا أمكن لك أن تستطرد في التأمل، فستعرف أنهم لولا ثقتهم في حيدتك واستقامتك، ولولا ثقتهم في قدرتك علي أن تحكم بماتقتنع بأنه الحق والصواب، لما أتوا إليك.

والسؤال الآن هو: ما الذي يحدث إذا لم يأتوا إليك، والحال أن لكل منهم حقًا يدعيه لنفسه أو أنه يشكو من ظلم يطلب رفعه عنه، وهو في حال ضرورة أو احتياج لاقتضاء حق يدعيه أو لرفع ظلم يعاني منه، وأنه يتكبد في سعيه إليك جهدًا ومالاً وقلقًا وانتظارًا. الذي سيحدث هو أنه سيسعي لاقتضاء حقه بيديه، أي أنه سيلجأ للعنف إن عاجلاً أو آجلاً.

من هنا يظهر أن القضاء المستقيم والمقتدر هو أساس لا يمكن الاستغناء عنه ولا بديل عنه، لكي تحل الخصومات داخل الجماعة الحضارية بالوسائل السلمية المشروعة، لأنه به وحده تتحول الخصومات من وسائل استخدام العنف لحماية الحقوق أو لاقتضائها إلي وسائل استخدام الحجج والأسانيد الحقوقية التي تعتمد علي أحكام وقواعد معروفة سلفًا. وإذا انحسرت هاتان الصفتان عن القضاء وعم العلم بانحسارهما، فليس معني ذلك أن ظلمًا سيشيع ولا أن حقًا سيهضم، وإنما معناه أن أساسًا من أسس تحضر الجماعة قد انهار».

•••

(٣)

أتمنى ألا يكون في مصر الآن من يأخذ «أو ما يأخذ» جلالَ القضاة أو ميزانهم الى حيث لا يطيقون، أو الى حيث لا تطيق العدالة.

أعرف أن في النهر ما فيه، وفي النفوس ما فيها. ووراء الأكمة ما وراءها. ولكني أثق في أن القضاة يدركون ما أوكله الله لهم من أمانة «العدل»، الذي هو اسم من أسمائه سبحانه. وأنهم، بوصفهم الأجدر والأولى بسمو ما أتمنوا عليه، سيعملون على طي صفحة أو صفحات فيها ما فيها، ويجعلون نصب أعينهم، قبل كل شيء الحفاظ على مهابة منصة، ودقة ميزان لو اهتز لارتبك المجتمع وعمت الفوضى. ولعلي لا أستطيع أن أقرأ ما نقلته الصحف قبل يومين عن مشاجرة بالأيدي في شوارع طنطا بين وكيل نيابة وضابطي شرطة وصلت الى حد وضعهم الكلبشات في يد وكيل النيابة إلا في هذا السياق،

وأرجو، كمواطن يحرص على مهابة القضاء والقضاة، ويخشى عليها من تداعيات وتفاعلات وتجاذبات مراحل انتقالية تداخلت، أن يجتمع شيوخهم (ربما من تركوا المنصة بحكم السن أو غيره) ليتداولوا فيما يرونه لازم للحفاظ على تلك المهابة مظلةَ عدل لا يستغني عنها مجتمع، أي مجتمع مهما تباينت مواقفه السياسية ... وأحسبهم بالضرورة الأدرى بمستوجبات ذلك. إذ لعلي ممن يرون أنه لا ينبغي لنا أبدا آن نستخف بآثارٍ لا بد وأن تترتب على إسقاط مهابة منصة «وميزان عدالة» لو شاع بين الناس اهتزازه لما اطمأنوا أبدا للجوء اليه. ولعمد كل منهم الى أن يأخذ حقه "أو ما يتصور أنه حقه" بيديه، ولسقطت "الدولة" التي هي بالتعريف مؤسسة لتنظيم حياة الناس. ولفشل الحاكم أيا من كان هذا الحاكم في إدارة أمور بشر يتجاوز تعدادهم التسعين مليونا.

•••

وبعد ..

«فالسلاطين حقًا كثير» لا أتحدث عن القضاء، بل عن مجتمع بأكمله. تشابهت عليه الحقائقُ والرؤي؛ صدقًا ومبالغةً وأكاذيب. وعن لحظة تشابكت مؤثراتُها على الجميع؛ ضغوطًا وهواجس.. وإرهابًا ودماء. فضلا عن ما ورثناه من صدامات مراحل انتقالية مرتبكة؛ توجسات وثأرات وحسابات وترصد وفقدان ثقة. لا أقول انظروا الى أحكام القضاء. بل إنظروا الى قرارات الحكومة، والى مواقف السياسيين، والى القوانين الجديدة، والى مواد الدستور. هي لحظة «اللا يقين». وليس كمثلها لحظة على ضمير أي قاض. يعرف أن حسايه في النهاية عند ربه، وأن ليس له أن يحكم الا بما استقر في «يقينه».

وقانا الله شر اللحظة، ما ظهر منها... وما بطن

أيمن الصياد  كاتب صحفى
التعليقات