عودة إلى تجربة التخطيط فى الستينيات - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:09 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عودة إلى تجربة التخطيط فى الستينيات

نشر فى : الإثنين 1 ديسمبر 2014 - 8:35 ص | آخر تحديث : الإثنين 1 ديسمبر 2014 - 8:35 ص

استكمالا لما ناقشته فى مقالات سابقة، أعود إلى إلقاء مزيد من الضوء على التطورات التى تعرضت لها ثورة 23 يوليو فى ظل التجارب الثورية الأخرى وموقف الأطراف المختلفة منها ومما تسعى إليه من تغييرات تحددها التداعيات التى أوصلت الأمور إلى حد انفجار الثورة، وموقف الثوار من كيفية انتشال المجتمع منها، وإحداث نقلة تقوده إلى الاستقرار والازدهار. فهناك حالات يسود فيها الاعتقاد بأن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السابقة لقيامها سليمة فى جوهرها، ولكن الخطأ يكمن فى استغلال الممسكين بزمام الأمور ما بأيديهم من سلطات لتشويه معالمها تحقيقا لمنافع غير مستحقة تضر بالصالح العام، ودعمهم مواقعهم باللجوء إلى نشر الفساد والاستبداد والاستناد إلى تأييد عناصر محلية وخارجية مستفيدة منه. فإذا ساد اليأس من التغيير السلمى عن طريق «تداول السلطة»، قامت الثورة بإقصاء الفاسدين ورد المجتمع إلى المسار الذى يتيح التوافق بين مصالح الفئات المختلفة. ومن هذا القبيل ثورات الشباب التى انطلقت فى فرنسا ودول أخرى فى نهايات ستينيات القرن الماضى، وترتب عليها إحداث إصلاحات مكنت النظام من العودة إلى الحياة بشكل أكثر تقبلا.

غير أن الثورات الأكثر حدة تنكر على النظام ذاته صلاحيته، وتطالب بإعادة تنظيم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، وبناء نظام سياسى يرعى هذه التغييرات وينميها. وهنا نميز بين حالتين تختلفان من حيث مدى وضوح أهدافها وكيفية تحقيقها: «ماذا» و«كيف»، ومدى اتفاق الأطراف المعنية حول كيفية تحقيق أهداف جمعت بينهم عند انطلاق تحركهم، بما فى ذلك الاتفاق بين الثوار أنفسهم، وقدرتهم على إرضاء طموحات الأنصار، واستعداد المجموعتين لتحمل أعباء إعادة البناء التى قد يطول أمدها.

•••

وعندما قامت ثورة 23 يوليو قال عبدالناصر فى افتتاح مركز هيئة التحرير بشبين الكوم، 23/2/1953، «إننا لا نبغى فقط نهضة عمرانية أو صناعية أو عسكرية، ولكننا نبغى نهضة بشرية». (وهو تعبير عما تبناه المجتمع الدولى بعد ثلاثة عقود تحت مسمى «التنمية البشرية»). ثم عاد فقال مخاطبا عمال النقل المشترك فى 3/4/1954 إن «أول أهداف الضباط الأحرار قيام عدالة اجتماعية.. إن أهداف الثورة لم تكن إخراج الملك فقط، إنما كانت أساسا لتغيير النظم الاجتماعية». ومعلوم أن عمليات التغيير الاجتماعى قد تحتاج لأكثر من جيل لتحقق نتائج قادرة على الاستمرار بقواها الذاتية. وهنا نجد أن التعامل يختلف حسب مستوى التقدم الاقتصادى الذى تحقق من قبل: فإذا كان التشابك الإنتاجى قد قطع شوطا طويلا وترسخت فى ظله علاقات اجتماعية مشوهة، كان لابد من إجراءات حاسمة لفرض علاقات اجتماعية أفضل مع المحافظة على المستوى الاقتصادى وتنميته. أما إذا كان أمام المجتمع شوط طويل لإدراك التقدم الاقتصادى المنشود فإن الثورة تحتاج إلى استمرار لمدى أطول، حتى لا ترجع العلاقات الاقتصادية الهزيلة فتعيد إنتاج العلاقات الاجتماعية المشوهة. وينعكس هذا بالضرورة على تماشى تطوير النظام السياسى مع إمكانيات تحمل البنية الاجتماعية.

كل هذا هو جوهر الخلاف بين فريقى محمد نجيب وعبدالناصر فى الفترة 52-1954، حيث تصور الفريق الأول أن مجرد ضرب الإقطاع والاحتكار يكفى للمضى على نهج اقتصادى خاضع لآراء رجال الاقتصاد المتأثرين بالفكر الرأسمالى الكلاسيكى الذى لخص المشكلة فى توفير تمويل لمشروعات جديدة سواء من مصادر محلية أو أجنبية، فى ظل سوق وأسعار حرة لا يشوبها احتكار. وفات هؤلاء أن رأس المال الخاص احتكارى بطبيعة ضيق الخيارات الإنتاجية فى مراحل التطور الصناعى الأولى والاعتماد على العالم الخارجى سواء لجلب متطلبات الاستثمار أو مستلزمات الإنتاج، ويطالب حماية السوق الداخلية لانخفاض قدرته التنافسية، وهو ما يفضى إلى تغذية الاستهلاك المحلى واتساع عجز ميزان المدفوعات. ومن ثم فهو حريص على السيطرة على المسرح السياسى بدءا بالتمثيل النيابى، وتأمين خضوع الجهاز التنفيذى وسياساته لمآربه الخاصة. وغطى هذا الخلاف على التفاهم على متطلبات التخطيط الهيكلى اللازم لإعادة بناء التنظيم المجتمعى، وأضعف الصلة الواجب تقويتها بين الجانبين الهيكلى والوظيفى.

وأفضى ذلك إلى إضعاف إمكانيات قيام حياة حزبية سليمة، خاصة أن المجتمع الريفى وامتداداته فى الحضر كان يقوم على العصبيات العائلية، فى ظل اشتداد المركزية وضعف الكيانات المحلية القائمة على تلاقى المصالح العملية لا أواصر القربى. وإذا كان الخلاف قد حسم خاصة فى أعقاب أحداث 1956 فإن شبح محاولة القوى التى أبعدتها الثورة من مواقعها التسلل إلى مسرح النشاط السياسى والتنفيذى، غذى نبرة الحفاظ على المكتسبات الثورية، واستغلها البعض فى طرح أفكار واتخاذ إجراءات شابتها دوافع لا تمت إلى الثورة وإن تظاهروا بغير ذلك. على الجانب الآخر توهم البعض أن استرضاء الفئات العمالية هو بوليصة تأمين لاستمرار الثورة، ومن ثم فى بقائهم هم فى مواقعهم. ومع إشاعة جو من الاطمئنان إلى المستقبل حدث تراجع فى معدلات الادخار، خاصة لدى الفئات الكادحة، فزادت حاجة المنشآت الإنتاجية إلى الاقتراض من مصادر خارجية. وبدأ الغرب يكشر عن أنيابه فقطعت ألمانيا معونتها وحولتها إلى تعويضات للصهاينة عن الهولوكوست المزعوم. وغير عبدالناصر من لهجته: فبعد أن كان يردد الآراء التى تدافع عن الاستهلاك لكونه هو الذى كان الدافع إلى الإنتاج، بدأ ينذر بالمعادلة الصعبة وهى أن الإنتاج اللازم لابد له من استثمارات تمولها مدخرات تنتقص من الاستهلاك الحالى ليصبح من الممكن زيادته فى المستقبل. وحاول فى 1965 النزول إلى الشارع ليقود الجماهير فى مواجهة مراكز القوى التى كشف الستار عنها فى 1967، إلا أن هذا أثار مخاوف إحداث فراغ فى السلطة تستغله فئات معادية لها. وهكذا نشأت معادلة صعبة من نوع آخر.

•••

وبناء عليه أوقف إعلان الخطة الخمسية الثانية، وكلف زكريا محيى الدين بالقيام بعملية إصلاحية تعيد الدولة إلى مسارها الصحيح. ومن موقعى بالعمل معه شعرت بمدى القيود التى يتحرك فى داخلها. وحاول إطلاق يد إدارات القطاع العام مع تقييم نتائج نشاطهم ومحاسبتهم وفقا لها، وكذلك دعا القطاع الإدارى لتطوير أسلوب عمله. ومن المواقف التى تكشف عن مخاوف مسئولين لا يشك فى قدراتهم العلمية والعملية، ما فوجئت به من اتصال الممثل المقيم للأمم المتحدة كمدير لمعهد التخطيط القومى لإبلاغى بوصول الخبير الروسى الشهير بافلوف ليتسلم عمله فى المعهد. فاتصلت بوكيل وزارة التخطيط الذى أبلغنى أن الوزارة كانت قد طلبته للمعاونة فى بناء الموازين السلعية التى اعتمد عليها الفريق الذى أعد الخطة الخمسية الأولى، إلا أن الوزير يرى أن المصلحة تقضى بعدم اطلاع خبراء أجانب على دخائل البنية الاقتصادية للدولة. وكان إن استأذنت فى تشكيل فريق من الوزارة للتدريب داخل المعهد. وبعد فترة استدعاه ذلك الفريق للوزارة!! بل إنى رتبت لبافلوف وخبير تشيكى لدى المعهد بزيارة مصنع الحديد والصلب، كان له وجاهته. بالمثل بحكم التعاون القائم بين المعهد ومنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية طلبت الموافقة على معاونتهم فى دراسة التعاونيات التى كنت أرى فيها خطوة عملاقة أسستها الثورة وتداعت مع الزمن، وتعهدت بالحفاظ على السرية الواجبة للبيانات مع الاستفادة بأسلوب البحث، ولكن الطلب رفض.

الثورات تحتاج إلى حمايتها حتى ممن يؤمنون بها، لكى تكون جديرة بإصلاح الوطن

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات