بطاقة صفراء للداخلية - فهمي هويدي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 6:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بطاقة صفراء للداخلية

نشر فى : الثلاثاء 1 ديسمبر 2015 - 10:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 1 ديسمبر 2015 - 10:30 م
شىء جيد وجدير بالملاحظة أن ترتفع أصوات الانتقاد والاحتجاج فى وسائل الإعلام المصرية رفضا لأساليب التعذيب التى تتبعها وزارة الداخلية، التى أدت إلى قتل أربعة أشخاص خلال أسبوع. ورغم أن المنظمات الحقوقية المستقلة ظلت طول الوقت توثق وتنبه وتحذر من استمرار التعذيب الذى يمارس فى السجون وفى أقسام الشرطة، إلا أن بياناتها ظلت دون صدى يذكر، إذ كانت تستقبل إما بالإنكار أو التجاهل. وفى بعض الأحيان كان إصدارها يعد جزءا من «المؤامرة» التى تستهدف تشويه صورة الشرطة والإساءة إلى سمعة مصر فى الخارج.
لأن الخبر كان قديما عند الحقوقيين وأهالى المسجونين، فإن السؤال الذى بات محيرا هو لماذا إشهاره الآن وتحويله إلى اكتشاف غير مسبوق أبرزته تعليقات الكتاب وحوارات بعض برامج التليفزيون؟! ــ حين ناقشت من أعرف من الحقوقيين كان تفسيرهم ان عوامل عدة دفعت ملف التعذيب إلى الواجهة فى الوقت الحاضر، منها ما يلى: ان الأمر زاد عن حده وأسفر عن قتل عدد من الأشخاص خلال فترة وجيزة أثارت الانتباه. ثم ان الذين عذبوا وقتلوا كانوا أشخاصا عاديين من خارج دائرة الاستباحة. بمعنى أنه ليس لهم أى انتماء سياسى، ويتعذر تصنيفهم ضمن الإخوان أو الإرهابيين الذين سوغت التعبئة الإعلامية «تصفيتهم» باعتبارها أمرا مقبولا وضروريا ــ إضافة إلى ذلك فإن عمليات القتل استفزت الناس الذين خرجوا فى مظاهرات حاشدة شهدتها مدينتا الأقصر والإسماعيلية، ردد المتظاهرون خلالها هتافات ذهبت إلى حد التنديد بالنظام وليس بالشرطة وحدها. وهو ما أعطى انطباعا بأن ممارسات الشرطة أرتد أثرها على النظام القائم. تحدث البعض أيضا عن انتشار أشرطة الفيديو التى وثقت الانتهاكات وصورت الضحايا وتناقلتها وعممتها وسائل التواصل الاجتماعى، مما أسهم فى إثارة وعى كثيرين بالموضوع.
تواتر التعليقات على النحو الذى ظهر بوضوح هذا الأسبوع بدا وكأنه اشهار للبطاقة الصفراء من جانب المجتمع فى وجه مسئولى الداخلية، إذا استخدمنا لغة الانذار المتعارف عليها فى مباريات كرة القدم، وهى خطوة مهمة تستدعى عدة ملاحظات يحضرنى منها ما يلى:
< إنها صحوة متأخرة ومنقوصة. والتأخير محتمل باعتبار أن ما يأتى متأخرا يظل أفضل مما لا يأتى على الإطلاق. وهى منقوصة لانها غضبة رافضة لاستمرار التعذيب واستفحاله، ولم تتطرق إلى مختلف أشكال الانتهاكات الأخرى التى تمثل عدوانا صارخا على حقوق الناس وكراماتهم وحرياتهم. وقائمتها طويلة تشمل تجريم التظاهر السلمى وإطلاق مدة الحبس الاحتياطى والاختفاء القسرى ومحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكرى وإهدار حقوق المسجونين فى الرعاية والعلاج...إلخ.
< إنه يجرى التهوين من شأن التعذيب بدعوى ان الذين يمارسونه فئة محدودة من رجال الشرطة، وهذا صحيح لا ريب وأزيد عليه بالإقرار ان بين الشرطة رجال شرفاء يستحقون الاحترام كما اننا نظل بحاجة ماسة إلى الشرطة التى تحمى المجتمع والقانون وليس تلك التى تكون عبئا على الاثنين. فى هذا الصدد فتحفظنا ليس على عدد الذين يمارسون التعذيب والانتهاكات، وإنما ينصب التحفظ على المبدأ ذاته. وسبق أن قلت بأنه إذا كان النص القرآنى قد ذكر: «أن من قتل نفسا بغير حق فإنما قتل الناس جميعا»، (سورة المائدة الآية ٣٢)، فإن القياس يسمح لنا بأن نطبق الحكم ذاته على التعذيب. وبوسعنا من ثم ان نقول ان من عذب نفسا فكأنما عذب الناس جميعا، ذلك ان القتل إذا كان عدوانا على حق الإنسان فى الحياة، فالتعذيب انتهاك لحقه الأصيل فى الكرامة، الذى قرره النص القرآنى «ولقد كرمنا بنى آدم» (سورة الإسراء الآية ٧٠) وما قرره الله لا يحق لأحد أن يهدره تحت أية ذريعة.
< المشكلة لا تكمن فى عدد الذين يمارسون التعذيب من رجال الشرطة ولكنها فى الثقافة التى سادت فى ذلك القطاع فى ظل نظام الطوارئ الذى ظل مطبقا فى مصر لنحو ثلاثة أرباع القرن. ذلك انها أطلقت أيدى الشرطة فى استباحة كرامات المواطنين، فاعتادوا على ذلك واقتنعوا بأنهم فوق الحساب وفوق القانون، من ثم فانهم اقتنعوا بأن اعفاءهم من المسئولية عن أى انتهاك مضمون فى كل الأحوال. وهو ما اثبتته الممارسات على مدى السنين، ولا سبيل الى تصحيح ذلك الانطباع المغلوط الا بمحاسبة المسئولين عن التعذيب، وليس فقط إدانة مسلكهم.
< الملاحظة الأخيرة ان بعض الكتابات التى انتقدت التعذيب حصرت الجريمة فى حدود الشرطة فى ايحاء بأن ذلك سلوك ينسب إلى بعض عناصرها أو إلى وزارة الداخلية ووحدها التى ينبغى أن تحاسب عليه. وذلك تغليظ جسيم يبرئ السياسة ويعفيها من المسئولية. فى حين ان التعذيب فى حقيقته يعد جريمة نظام وليس جريمة شخص أو جهاز. صحيح أننا لا نستطيع أن ندعى بأن التعذيب حاصل بقرار سياسى لكننا نقطع بأن منعه وتجريمه يمكن ان يتم بقرار سياسى. أما ان يستمر ويحاول البعض اقناعنا بأن ذلك يحدث من وراء ظهر السياسة، فذلك منطق فاسد فيه من التستر والتضليل بأكثر مما فيه من الصدق والأمانة.
يوم الأحد الماضى (٢٩/١١) كان عنوان الصفحة الأولى لجريدة «الشروق» كالتالى: الرئيس (السيسى) لا يستطيع أى جهاز فى الدولة تجاوز القانون. وذلك إعلان مهم ومحير فى الوقت ذاته. هو مهم لأنه صادر عن رئيس الدولة، ونريد أن نصدقه، وهو محير لأن الواقع يتعارض معه ولا يعبر عنه.
فهمي هويدي فهمى هويدى كاتب صحفى متخصص فى شؤون وقضايا العالم العربى، يكتب عمودًا يوميًا ومقالاً اسبوعياً ينشر بالتزامن فى مصر وصحف سبع دول عربية اخرى. صدر له 17 كتابا عن مصر وقضايا العالم الاسلامى. تخرج من كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1961 ويعمل بالصحافة منذ عام 1958.