عذرا.. سيدنا آدم - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عذرا.. سيدنا آدم

نشر فى : الثلاثاء 2 فبراير 2016 - 11:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 2 فبراير 2016 - 11:40 م
أظن أنه لا خلاف على أن رقابة الدولة على مواطنيها، فى أمريكا كما فى غيرها، وصلت إلى الذروة. أظن أيضا أنه لا خلاف على أن المواطنين فى معظم هذه الدول أصبحوا أكثر ميلا للكشف عن أسرارهم والتنازل عن خصوصياتهم بإرادتهم.

يبدو الأمر كسباق بين الدولة والمواطن، الدولة تستخدم أقصى قدراتها للاستفادة من التكنولوجيا الحديثة لتعرف عن المواطن أكثر مما يعرف هو عن نفسه، بينما المواطن من ناحيته يسعى بقدراته الخاصة واستخدام نفس التكنولوجيا ليعلن عن أسراره ويكشف عن خصوصياته قبل أن تصل إليها الدولة.
***

تقول الأسطورة إن العلاقة بين الرقيب والإنسان تعود إلى يوم اكتشف فيه آدم، بإيحاء من الحية، حاجته إلى معلومة جديدة. هكذا ارتكب الانسان خطيئته «الأصلية»، فقد اكتشف لحظتها أنه كان عاريا، أى حرا، وبدأ على الفور البحث عن غطاء أو ساتر. نعرف من اساطير عديدة أن آدم
لم يكن يخضع لأى رقابة وهو عارى الجسد. كان حرا بكل معنى للكلمة، حتى اللحظة التى اختار عندها أن يغطى نفسه، أى يخفى بعض خصوصياته. هنا بدأت الرقابة. منحته الآلهة الحرية كاملة فتمرد عليها واختار أن يقيدها بأغطية تستر جسده، ناسيا أو غافلا عن حقيقة مهمة، وهى أن الرقيب الذى صنعه لن يكتفى بالرقابة على الجسد من خارجه، بل سوف يسعى دائما لتصل رقابته وقيوده إلى داخل هذا الإنسان، إلى النفس والنوايا. هكذا ذهبت الأسطورة.
***

خرج فى القرن الثانى عشر، وبالتحديد فى عام ١١٥٩، رجل ذو نفوذ كبير، ويدعى يوحنا، أو اللورد سانزبورى، ليطرح فكرة أن الطغاة من بنى البشر عادة ما يضعون أنفسهم فى خدمة الآلهة. هم على الأقل يقدمون هذا التبرير عندما يتولون مسئولية الرقابة على الناس والسعى الدائم الذى لا يهدأ للتوصل إلى النوايا والخفايا. لم يخف الرجل اعتقاده أن الطغاة من الحكام لم يرتاحوا إلى إنسان يمد يده إلى «شجرة المعلومات المحرمة»، تلك الشجرة التى كانت وراء صدور الحكم بمعاقبة آدم وطرده من الجنة. لقد تجاوز آدم حدود علاقته مع القوة التى خلقته حين ساقه الفضول إلى شجرة ليحصل منها على معلومة واحدة، فما حاجته إلى معلومات وهو يتمتع بكل هذه الطيبات التى تزخر بها الجنة، وفى مقدمها حرياته ومنها حرية الاختيار بين أن يبقى فى الجنة أو يهبط إلى الأرض.
***

وقع فى تصور رجال الدين فى عصور أوروبا المظلمة أنه بما أن الخالق الأعظم يعرف ما فى النفوس، فما الذى يمنع كنيسته على الأرض من أن تعرف هى الأخرى نوايا الناس وما فى نفوسهم. لهذا الغرض، وأغراض أخرى، دعا البابا إنوسنت Innocent الثالث كبار المفكرين وقادة الكنائس المحلية وممثلى حكومات الأقاليم إلى مؤتمر شهير أنتج ٧١ دستورا. جاء فى أحد هذه الدساتير نص الأمر الموجه للمسئولين عن الحكم بفرض الرقابة المشددة على كل إنسان يخضع لسلطتهم بخاصة الأفراد الذين تدور حول إيمانهم الشكوك، أو هؤلاء الذين تسرب إلى إيمانهم الشك.

وإذا تأكد أن فى نفوسهم شكوكا عوقبوا بمصادرة ممتلكاتهم وأموالهم واحيانا بإعدامهم. ربما هكذا بدأت حكايات جرائم الفكر. ولتسهيل مهام الرقباء لم تتوان الكنيسة عن تنظيم دورات تدريبية لموظفى الحكومة للتعرف على نوايا «المؤمنين»، وما يخفون فى نفوسهم. تقرر أيضا فى الدستور الثامن الصادر عن المؤتمر أن تتبادل الكنيسة والحكومة جميع المعلومات المتوفرة عن نوايا جميع أفراد المجتمع.
***

جاء فى التحليلات التى ناقشت مسألة الرقابة على المؤمن كما أوصت بها دساتير هذا المؤتمر، إن رجال الدين استندوا فى ذلك الحين إلى قاعدة أن ما فى النفوس معروف للخالق ويجب أن يكون معروفا لرجل الدين ولموظف الحكومة، حتى «ما يبوح به الزوج لزوجته همسا أو لمسا فى فراشهما». هذه المعلومات، كما جاء فى نص الدستور، تحفظ فى سجلات الكنائس لتذهب مع الفرد إلى الآخرة كضمانة من الكنيسة لعدالة السماء يوم الحساب. بمعنى آخر، هذه التقارير السرية سوف تشفع للفرد يوم الحساب، وواجبه فى الدنيا أن يكون شفافا فلا يخفى سرا ولا يضمر نية، بل يسر بهما أولا بأول إلى أقرب رجل دين أو مسئول سياسى.

من هنا، أظن، بدأت رواية تقول إن فى الرقابة على خصوصيات الأفراد ضمانا وحماية لهم ضد «الأعداء». واجب المؤمن أن يتذكر دائما أن الإنسان الأول الذى أخطأ بقراره السعى للحصول على معلومة اضطر أن يدفع ثمنها «اكتشافه أنه عار» تماما، فما كان منه وقد اكتشف عريه إلا أن يسرع بتغطية نفسه، أى إخضاع نفسه لرقابة ذاتية.

حمايته الوحيدة منذ ارتكابه الخطيئة كانت وستظل هذه الرقابة. هى وسيلته إلى سعادة وقتية بعد أن فقد سعادته الأبدية بسبب سوء استغلاله للحرية التى كان يتمتع بها.
***

لا أعرف إن كانت هذه «الروايات والأساطير» التاريخية تختلف عن الروايات التى نسمعها فى أيامنا الراهنة عن نهاية الخصوصيات الفردية وعن الإنسان الجديد الذى يولد مكبلا بكل أنواع الرقابة الذاتية والخارجية. أظن أن الجوهر لم يختلف، فالواضح لنا على كل حال هو أن نصف القرن الأخير سيظل علامة بارزة فى سجل تدخل الحكومات والشركات فى خصوصيات الأفراد. فى هذه الفترة طلع علينا سنودن بتسريباته المذهلة وازدحمت الأجواء بطيارات الدرون بدون طيار فى أحجامها المتعددة انتهاء بالطائرة فى حجم علبة الكبريت ووظيفتها التجسس والتصنت من الجو على الشقق والمكاتب. هناك أيضا موجة الاختراعات متعددة المهام كالثلاجات والهواتف الذكية وبنوك المعلومات مستفيدة أساسا من الثورة فى وسائل الاتصال الاجتماعى، ولكن أيضا من توابع وباء الاعترافات المستشرى بين المشاهير انتهاء بتقليعة كتابة السير الذاتية من طالبى الوظائف. هكذا يساهم الإنسان بنفسه فى ممارسة الرقابة على ذاته وعلى نواياه ودخائله.
***

أنا واثق أن آدم لم يحلم بهذا المصير لبنيه من بعده.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي