لا تسألوا عن أشياء... - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:04 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لا تسألوا عن أشياء...

نشر فى : الخميس 2 فبراير 2017 - 9:00 م | آخر تحديث : الخميس 2 فبراير 2017 - 9:00 م

فرضت كندا اعتبارا من يناير 2017 على كل المحال التى تتعامل مع الأطعمة الغذائية أن توضح على تلك الأطعمة عدد السعرات الحرارية التى تشتمل عليها فلم يعد بإمكانك أن تتعاطى مع أى طعام بيعا أو شراءً من دون أن تتعرف بالتحديد على مدى دسامة هذا الطعام. بطبيعة الحال فإن تنبيه المستهلك للسعرات الحرارية الموجودة فى بعض السلع الغذائية كالسكريات والنشويات وخلافه أمر شائع وقديم داخل كندا وخارجها، لكن الجديد أنك وأنت تتناول طَعَامك فى أحد المطاعم الكندية أصبحت قادرا على تكوين صورة دقيقة عن إجمالى عدد السعرات الحرارية التى استهلكتها من أول طبق السلاطة وحتى قطعة الجاتوه والمشروب الغازى مرورا بالطبق الرئيسى. مثل هذا التقليد الجديد يساعد بلا شك على تقييد الشهية ويسرع الإحساس بالشبع، لكنى أظن أيضا أنه يفسد على الآكل متعته لأن الواحد منّا وهو يتلذذ بتناول الساندوتش المدجج بشرائح اللحم الرقيق التى تتوسد قطع الموتزاريلا وصوص المايونيز وبعض أوراق الخس سيصدمه عدد سعرات وجبته حين يعلم أنها تبلغ حوالى نصف العدد الإجمالى للسعرات المسموح له بها على مدار اليوم، وهذا شىء غير مريح بالمرة.


***
عندما فكرت فى إمكانية نقل التجربة الكندية إلى الواقع المصرى تخيلت ماذا يمكن أن يحدث لو حددنا السعرات الموجودة فى أطباقنا المختلفة وابتسمت لأن مطبخنا المصرى العامر يتمتع بدرجة عالية من الدسامة. لا أظن أن أحدا حاول أن يجرى مقارنة بين تطور دسامة الأكل المصرى على مدار نصف القرن الأخير، وأتصور أن هذه المقارنة إن تمت ستغير الكثير من التصورات عن العادات الغذائية الملتصقة بالأجيال المختلفة، ومنها تصور أن طعامنا الحالى صار أخف وأصح أيضا نتيجة زيادة الوعى الغذائى وتصنيع بدائل قليلة السعرات للخبز والحلوى.


أنا من جيل كان طعامه يُصنَع من السمن البلدى، وقد عايشت سنة وراء سنة عملية تحويل الزبد الفلاحى إلى سمن، وهى عملية كان يقوم بها والدى بنفسه وكانت تضع البيت كله فى حالة قلق وتوتر مخافة إفساد هذه الثروة القيمة من الزبد نتيجة السهو لسبب أو لآخر. ومع أن هذا التقليد اختفى فى حدود ما أعلم من معظم البيوت المصرية، إلا أن نوعا آخر من الدسم زحف على موائد شبابنا وأعنى بهم المولودين اعتبارا من سبعينيات القرن الماضى. دخلت الكريمة المخفوقة على الكثير من حلوانا بما فيها تلك الحلوى التقليدية كالأرز باللبن والمهلبية التى كنّا نتلذذ بمذاقها كما هى دون حاجة لأى إضافات، أكثر من ذلك فإن هذه الكريمة المخفوقة باتت تزين معظم المشروبات التى يدخل الكافيين فى تكوينها بحيث إن لم تنبه البائع إلى أنك تريد كوب اللاتيه أو الكابوتشينو خاليا من الكريمة المخفوقة فالأرجح أنك ستجد جبلا شاهق البياض يسبح فى هدوء فوق شرابك الساخن.


***
تربى جيلنا أيضا على حلوى «سد الحنك» وهى تلك الحلوى المصنوعة من دقيق السميد والسكر والسمسم والكثير من السمن وفِى بعض الأحيان كان يوضع على سطحها القليل من العسل الأبيض تعبيرا عن المزيد من الاهتمام. هنا نلاحظ أن الاسم لم يُختر اعتباطا لكن تم اختياره للدلالة على حالة التخمة التى كانت تصيب آكلها حتى لا تعود لديه رغبة فى تبادل الكلام، أما فى بعض الدول العربية التى عرفت هذه الحلوى كالجزائر مثلا فقد اتخذت أسماء أخرى مثل «الطمينة أو المقنتة». اختفت حلوى «سد الحنك» أو كادت وكثير من شبابنا لم يسمع عنها أصلا، لكن على الجانب الآخر انتشرت قنابل غذائية لا تقل دسامة فى صور وأشكال مختلفة مثل حلوى ال«سينابون» المزينة بالشيكولاتة أو الكريمة والمكسرات والتى يقبل عليها شبابنا لا يسأل ولا تسأله أنت عن عدد ما تحتوى عليه القطعة الواحدة من السعرات الحرارية، فالأمر غنى عن البيان.


يلاحظ هنا أن الأمثلة التى سقتها لا تنتمى كلها إلى الوجبات الغذائية السريعة التى نعرف مسبقا كم هى دسمة، لكن من تلك الأمثلة ما يرتبط بالتجديد فى مكونات بعض الأطعمة التقليدية جذبا للشباب الذى يُقبل بطبيعته على كل جديد، وفِى إطار هذا التجديد يجرى دس المزيد من الدهون والسكر.
***


قبل أيام احتفل المصريون بعيد الغطاس وهو عيد يقترن الاحتفال به بطهى القلقاس ذلك الطعام عالى السعرات الذى انتقل عبر الأجيال من أسرة مصرية إلى أخرى من دون أن تطرأ على طريقة طهيه زيادة أو نقصان. وحين بحثت عن تفسير العلاقة بين الغطاس الذى هو عبارة عن تعميد المسيح عليه السلام على يد يوحنا المعمدان فى مياه نهر الأردن وبين طهى القلقاس لم أتلق ردا واحدا وأحيانا لم أتلق أى رد أصلا، لكن الرواية الشائعة هى أن ثمرة القلقاس يرمز بها لرأس يوحنا المعمدان التى قُطعت بطلب من امرأة لعوب وقدمت لها على طبق من ذهب. على أى حال فإن الطقوس الغذائية للشعوب تتعيش على الأساطير ولا يحكمها المنطق بالضرورة، أما الشيء المؤكد فهو أن غطاسا مسيحيا يُقدم فيه طعام يتشارك فيه المسلمون مع المسيحيين أمر جيد، وأظن أن واحدة من أجمل عبارات التهنئة التى قرأتها على الفيسبوك تلك التى تقول «الدين لله والقلقاس للجميع»، وهذه عبارة لا تخلو من الذكاء فضلا عن خفة الظل بطبيعة الحال.
***


كل عام ومصر طيبة تطهو القلقاس فى عيد الغطاس ولا تشغل بالها بعدد السعرات فى هذا الطبق الشهى فمصر ليست كندا، كل عام ونحن نأكل ما نحب فى مناسباتنا الدينية وفِى مناسباتنا الاجتماعية المختلفة وما أكثرها، كل عام ونحن نغمض عيوننا عن عدد السعرات فى مأكولاتنا ونتعمد ألا نسأل عنها فهذا أفضل جدا من أن نجلد أنفسنا ثلاث مرات يوميا أمام أطباق الطعام.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات