مصيـر العدالة الاجتماعية - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 11:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصيـر العدالة الاجتماعية

نشر فى : الأربعاء 2 مارس 2011 - 9:55 ص | آخر تحديث : الأربعاء 2 مارس 2011 - 9:55 ص
اشتد ساعد الدعوة إلى الليبرالية الاقتصادية منذ ثمانينيات القرن الماضى، بعد أن روج لها رونالد ريجان فى معقل الرأسمالية، مسترشدا بدعوة ابن خلدون الذى رأى أن تخفيف أعباء الضرائب على رجال الأعمال يدفعهم إلى التوسع فى أنشطتهم، وهو ما يمثل خيرا للمجتمع خاصة أنه يسهم فى خلق المزيد من فرص العمل.

وشاركته الرأى مرجريت ثاتشر فى المركز الذى شهد نشأة الرأسمالية، وحولت هذا التوافق فى النهج الاقتصادى إلى تحالف سياسى عززت به الرغبة الكامنة فى الانسلاخ عن الاتحاد الأوروبى خاصة بعد أن شهد اهتماما متزايدا بالأبعاد الاجتماعية وبتغليب النظرة المجتمعية على النظرة الفردية.

ومهد هذا لتعميق التباين فى توزيع الدخل، ليس فقط بالتكالب على الأرباح الفاحشة، بل وبالتركيز على الأنشطة المالية والورقية، التى تراكم أرباحا وهمية، والإغداق على فئات محدودة من قيادات الشركات الكبرى، فى شكل رواتب ومكافآت لا تتناسب مع هياكل الأجور المرتبطة بصدق مع الإنتاجية. وحتى تكمل الصورة، نودى بجعل الحكومات صغيرة ورشيقة تنفض عن كتفيها أعباء الخدمات الأساسية والاجتماعية، وتحويل المسئولية عنها إلى القطاع الخاص، الذى أحال ما كان متعارفا على أنه من السلع العامة، التى توفرها الدولة لجميع أفراد المجتمع، إلى مصدر ثراء دون مخاطر للقطاع الخاص.

ولعل اضطرار أوباما مؤخرا إلى خوض معارك شرسة مع قيادات الشركات الخاسرة، الذين رفضوا التنازل عن مزاياهم وأصروا على إلغاء وظائف صغار العاملين، ومن أجل تمرير قانون التأمين الصحى الذى أزعج أولئك الذين يثرون على حساب المرضى ومن خلال احتكار الصناعات الدوائية، التى باتت تنافس صناعة السلاح كمصدر لدخل مغموس بدماء البشر.

وحينما تولى الدكتور سمير رضوان شئون وزارة المالية فى وزارة شفيق الأولى توقعنا خيرا من رجل حصل على درجة الدكتوراه فى 1973 بدراسة عن تكوين رأس المال فى الصناعة والزراعة فى مصر، ثم أشرف على دراستين هامتين للتوظيف فى مصر أثناء عمله فى منظمة العمل الدولية، وهى المنظمة التى تصدت لليبرالية الجديدة، وطالبت بوجه إنسانى لما روجت له من برامج باسم الإصلاح الاقتصادى. وفى لقاء متلفز تعرض لقضية الأجور وعلاقتها بالأسعار، التى فجرها مؤخرا التضخم المتواصل، الذى صب أموالا فى جيوب الانتهازيين والمحتكرين وأضاف إلى معدلات الفقر، وأشار إلى المادة (23) من الدستور نصت على أن: «ينظم الاقتصاد القومى وفقا لخطة تنمية تكفل زيادة الدخل القومى وعدالة التوزيع ورفع مستوى المعيشة، والقضاء على البطالة وزيادة فرص العمل، وربط الأجر بالإنتاج، وضمان حد أدنى للأجور، ووضع حد أعلى يكفل تقريب الفروق بين الدخول»، وأكد أن الأصل هو ربط الأجور بالإنتاجية وليس بالأسعار.

إن القراءة المدققة لهذه المادة لا تعنى أن الأجور يجب أن تربط بالإنتاج، أو بالأحرى الإنتاجية، وليس بالأسعار، إذ إن هذه الأخيرة ضرورية لتقدير الحد الأدنى للأجور ووضع الحد الأعلى لها. ولا يعنى هذا أن تترك الأسعار تتغير بصورة غير منضبطة، ولا أن الإنتاجية تتحدد بصورة تلقائية ثم تحدد الأجور فى ضوئها.


والواقع أن الفصل الثانى من الدستور، والمتعلق بالمقومات الاقتصادية، جرت صياغته بافتراض أن «ترعى الدولة الإنتاج الوطنى‏،‏ وتعمل على تحقيق التنمية الاقتصادية‏ والاجتماعية» (مادة 24)، بينما يكون «للعاملين نصيب فى إدارة المشروعات وفى أرباحها» على أن يلتزموا بتنمية الإنتاج وتنفيذ الخطة فى وحداتهم الإنتاجية (مادة 26). وتكفل المادة (25) «لكل مواطن نصيب من الناتج القومى يحدده القانون بمراعاة عمله أو ملكيته غير المستغلة». وفى هذا الصدد تنص المادة (38) على أن «يقوم النظام الضريبى على العدالة الاجتماعية».

وبعبارة أخرى فإن الدستور القائم يلحظ قضية التوزيع وإعادة التوزيع على نحو يحقق العدالة الاجتماعية.

وكان مما يلفت النظر تأكيد الدكتور رضوان أن الدراسات المستفيضة استخلصت أن الضريبة التصاعدية لا تسهم فى تحقيق العدالة الاجتماعية لكونها تحد من حوافز الإنتاج، وأن التصاعد يتحقق من خلال ارتفاع الدخل بتطبيق النسبة الموحدة، وكأن الأصل أنها ضريبة على الرءوس لا الدخول. وكأنى به يريد إحياء الريجانية، التى أجمعت معظم الآراء على فسادها.

لذلك جاء تصريح الدكتور جودة عبدالخالق عقب تعيينه وزيرا للتضامن والعدالة الاجتماعية بأنه سوف يرعى شئون الفقراء ويزيل كرب «الناس الغلابة» وأنه يحبذ الأخذ بالضرائب التصاعدية ليعيد الأمور إلى نصابها.

والدكتور جودة يعلم كل تلاميذه الذين يجمعهم حس تقديرهم له، ويدرك كل من قرأ له أو استمع إلى أحاديثه التليفزيونية أو شاركه فى مؤتمرات وندوات علمية، مواقفه الثابتة التى لم تتزعزع قيد أنملة، رغم أنها حجبت عنه مناصب كانت تسمو بتقلده إياها، لا ينطلق من مزايدات سياسية أو مداهنات لسلطة، بل يؤسس لمقولاته بدراسات علمية. ويعتبر تفنيده لما يدعى الإصلاح الاقتصادى وتحذيره من تفكيك الصناعة المصرية، التى كان يراد لها أن تكون عمادا للاقتصاد بعد أن قاربت الزراعة حدودها إضافة علمية ثمينة. والأهم من ذلك أن جانبا من تلك الدراسات أعد فى رحاب دور علم أمريكية، ونال جوائز عالمية. وفارق بين دراسات تخطط لها وتمولها مصالح رأسمالية جشعة، ودراسات ديدنها صحيح العلم ودقيق البيانات.

فى مقالى السابق حذرت من الوزراء التكنوقراط، الذين غالبا ما يفتقدون الحس الاجتماعى، الذى يعتبر من أهم الخصائص التى تقتضيها المرحلة الانتقالية، لأن ما قد يتقرر فيها يمكن أن يؤثر تأثيرا عميقا فى مسار المجتمع فى سعيه للتخلص من شوائب الماضى والإعداد لبنيان قادر على تحقيق آمال أبنائه فى المستقبل.

وأعتقد أن موافقة الدكتور جودة على تحمل أعباء منصب لا يتوقع له الدوام طويلا تشكل الاستثناء، الذى يؤكد أن التكنوقراط الذى يملك الحس الاجتماعى هو الشخص المناسب لهذه المرحلة بجمعه بين الحسنيين.

وأذكر أن الدكتور عاطف قبرصى، أستاذ الدكتور جودة فى جامعة ماكماستر (كندا) زارنى فى 1970 وشد على يدى قائلا: «كم كنت أود أن أرى الأستاذ الذى استطاع أن يجعل من جودة شخصا متميزا فى علم الاقتصاد القياسى برياضياته المعقدة، رغم أن خلفيته أدبية». وكان ردى آنذاك أن تلك شهادة له وليست لى، لأنى قدمت له ما أعرف فاستوعبه إضافة إلى ما كان يعرف.

لم أقصد بما سبق مقارنة بين شخصين، كلاهما يملك من العلم القدر الكبير، وله من العطاء الكثير، ولكننى أردت أن أثير مشكلة الاختيار فيما يسمى بوزارات تسيير الأمور.

ففى مثل هذه الوزارات تغيب الرؤية العامة المتكاملة، التى تجعل من الوزراء مجموعة منسجمة تعمل من أجل تحقيق أهداف تم الاتفاق عليها، فتجزئ الجهاز التنفيذى إلى شعب منعزلة كل يهتم بالجانب الذى تخصص فيه، بينما المسئولية الوزارية متكاملة. وفى هذا تبدو خطورة وزارة المالية لأنها التى تحدد أنصبة القطاعات المختلفة، وأدعو الله أن يمكن الوزيرين الصديقين من حل معضلة التوفيق بين النظرة الاقتصادية والاجتماعية.

واختتم مقالى هذا بالإشادة بالتنبه ــ الذى جاء متأخرا ــ إلى أن التخطيط الذى ربما كان قد سقط سهوا من الفكر ومن قائمة الوزراء، قد رد له اعتباره بإعادة إحياء اسمه وتكليف الدكتورة فايزة أبوالنجا به إلى جانب التعاون الدولى. وأرجو الله أن تتمكن من إعادته بالفعل إلى جانب الاسم، وأن يكون للتنمية الشاملة ببعديها الاقتصادى والاجتماعى، وأن تجد العدالة الاجتماعية مكانها اللائق فيه

 

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات