داعش ورسائل البحر - داليا سعودي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 4:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

داعش ورسائل البحر

نشر فى : الإثنين 2 مارس 2015 - 1:00 م | آخر تحديث : الإثنين 2 مارس 2015 - 1:00 م

"البحر، يا صاحب السمو، ليس المياهَ والزرقةَ والأمواج، إنه فلسفة كاملة، تبدأ بالخوفِ ثم التأملِ وأخيرا بالتواصل". عبارةٌ وضعها المبدع عبدالرحمن منيف على لسانِ أحد أبطال ملحمته "مدن الملح". أكادُ أسمع أصداءَها تتجاوب فيما أسترجع مشاهد المقطع الأليم لعمالنا المصريين المقتادين فى مسيرة الموت على الشاطئ الليبى الموحش. هناك، فى اختلاطها بمياه المتوسط، كانت الدماء المصرية وسيلةَ سافكيها لإرسال عدة رسائل فى عدة اتجاهات. فذلك هو مقصد التصوير المغرق فى أجوائه الكابوسية، شأن غالبية المقاطع المصورة التى تبثها داعش، والتى قيل إن المسؤولَ عنها مخرجٌ أيسلندى. رسائلٌ شتى تحملها رمزيةُ البحر وهى تؤطر مشهديةَ القتل.

(1)

رسالة ظاهرية

لا يغرنك البحر الساكن فى خلفية المذبحة. ففى قاع البحر يرقد جثمان أسامة بن لادن الذى جاء ذكره كدافع انتقامى فى بيان العملية المعلن. وبصورة أقل مباشرة، البحر فى ذهنية الدواعش شاشة عرض تتوالى عليها لقطاتٌ من التاريخ، يجتهدون باستماتة لإسقاطها على واقع اليوم. ففى اليمّ كان مهلك فرعون مصر وغرق جيشه. ومن الساحل ذاته الذى وقف عليه القتلة يتوعدون "أمة الصليب فى روما"، انطلقت من شمال إفريقيا جيوش الڤنداليين بقيادة جنسريك لغزو روما المسيحية وتخريبها عام 455م. وبمثل ما جاء فى نهاية شريط الذبح المصور، لا ننسى واقعة جريان نهر الفرات بدماءِ قوات تحالف الفرس والعرب المسيحيين، وتحوله إلى اللون الأحمر، بعد أن أوقع فيهم خالد بن الوليد مقتلة فى نهاية معركة "نهر الدم" عام 12ه/633م، تحدث بأخبارها كل من الطبرى وابن خلدون، واستخدمتها داعش فى أدبياتها لتبرير وحشيتها المفرطة فى معاملة الأسرى، رغم كون أحد رواة تلك الواقعة متروك الحديث عند مصنفى علم الرجال.

لا أعرف قوما يحرصون هذا الحرص على ربط أعمالهم الإجرامية بتبرير أخلاقى يستند إلى أصل دينى سوى الإسرائيليين، الذين دأبوا على اقتباس الإحالات التوراتية لتصوير صراعهم مع العرب على أنه قتال داوود لجالوت، والإيحاء بأن انتهاكاتهم الدموية لا تختلف عن ممارسات النبى سليمان وأساطير سليلة الملك يوشيا موحد المملكتين العبريتين. ففى حالتى الصهاينة وداعش، يبدو وكأن الطبيعة الإنسانية فى رفضها الغريزى للشر تلجأ إلى انتحال أقدس المرجعيات لتسكين دفاعات الضمير، تمهيدا لذبحه هو الآخر.

الرسالة الظاهرة إذن للعملية هى رسالة انتقام من الأغيار، تقوم على سياسة إجبار العدو على دفع الثمن ولو بعد حين، تلك السياسة التى دأبت داعش ومن قبلها القاعدة على تأكيدها فى البيانات التبريرية لعملياتها، والتى يؤكدها زى جوانتانامو المختار للضحايا. وسواء كان الانتقام من الغرب المسيحى على مقتل بن لادن أو من أقباط مصر على اختفاء كاميليا شحاتة ووفاء قسطنطين كما ادعوا، فالحقيقة لا تقف بأى حال من الأحوال عند تلك المياه الضحلة المنسابة على الشاطئ، ولا هى تختبئ فى الصور الذهنية الملحمية المستخرجة من أضابير التاريخ، فالحقيقة تسبح ولا ريب فى مياه أعمق...

(2)

رسالة استراتيجية

"إضرب بقوتك الضاربة وأقصى قوة لديك فى أكثر نقاط العدو ضعفا". هكذا نقرأ فى واحد من أهم النصوص التى يستند إليها الجهاديون، وهو الكتاب المعروف تحت عنوان "إدارة التوحش: أخطر مرحلة تمر بها الأمة"، الذى يعد بمثابة المانيفستو التنظيرى لتنظيم الدولة الإسلامية. والكتاب، الذى تَسمّى مؤلفُه باسم أبوبكر ناجى وتُرجم إلى عدة لغات، يعرض كيفية الوصول من مرحلة "شوكة النكاية والإنهاك" إلى مرحلة "التمكين وإعادة الخلافة"، مرورا بمرحلة "إدارة مناطق الفوضى المتوحشة". وبعملية ذبح العمال المصريين على شاطئ درنة، يدشن تنظيم الدولة الإسلامية تمدده إلى ليبيا، حيث تتكامل العناصر لتصنع من هذا البلد تربة خصبة للفوضى المتوحشة، من ضعف السلطة المركزية وتشتتها ما بين حكومة طبرق وجماعة فجر ليبيا وميليشياتها، واشتعال الحرب الأهلية وتفشى التنظيمات الإرهابية، ووجود عمق جغرافى يسمح بإقامة مناطق تدار بنظام إدارة التوحش، فضلا عن انتشار السلاح المنهوب بين أيدى الناس منذ سقوط نظام معمر القذافى فى 2011 بتدبير التحالف الأمريكى الفرنسى البريطانى.

من تلك البقعة الجغرافية المستوحشة، وفى هذه اللحظة الهشة، توجه داعش رسالتها الدامية إلى الدولة المصرية جيشا وشعبا. ففى وقت بات فيه الجيش المصرى آخر الجيوش العربية الكبيرة المتبقية، بلا ظهير عسكرى إقليمى، فى مواجهة تعنت الغرب، وصراعات الداخل، والوضع المتفاقم فى سيناء، تأتى مجزرة ليبيا بعد أيامٍ من مقتل جنودنا فى سيناء، معلنة بهذا الحصار عن مرحلة عسكرية جديدة فى ما يسميه كتاب ناجى "مرحلة شوكة النكاية والإنهاك"، موضحا إن "القاعدة العسكرية تقضى بأن الجيوش النظامية إذا تمركزت فقدت السيطرة، وعلى العكس إذا انتشرت فقدت الفعالية". فالهدف من وراء فتح عدة جبهات شرقية وغربية هو إحداث حالة إخلال فى الموازنة بين تكتل الجيش وانتشاره. فهم يدرسون بشدة مواقع الاشتباك، وظرف الاشتباك، ولحظة الاشتباك. ويعمدون إلى ضرب أكبر قدر من الأهداف كمًّا ونوعا على أكبر رقعة من الأرض بوتيرة تصاعدية. باختصار، عسكريا واقتصاديا، المراد لمصر هو استنزاف وتشتيت وإنهاك وعجز عن التقاط الأنفاس ما بين ضربة وضربة، بمثل ما حدث مع الاتحاد السوفييتى فى حرب أفغانستان، تمهيدا ــ كما يقول الكتاب ــ لـ"إخراج المناطق المختارة من سيطرة الأنظمة ومن ثم العمل على إدارة التوحش الذى سيحدث فيها".

هذه "المناطق المختارة" هى بالطبع "ولاية سيناء".

هذا ولن يكون هذا الاستنزاف محض عسكريٍ واقتصاديٍ، وإنما سيكون اجتماعيا أيضا. فضمن رسائل البحر الملوث بالدم رسالةُ استقطاب موجهة إلى شعب مصر، يعبر عنها أبو بكر ناجى فى كتيبه المشبوه بقوله: "نقصد بالاستقطاب هنا هو جر الشعوب إلى المعركة بحيث يحدث بين الناس ــ كل الناس ــ استقطاب." والاستقطاب هنا لا يُراد به إحداث فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين بقدر ما هو يرمى إلى إحداث مزيد من الشقاق بين المسلمين والمسلمين، وإلى إحداث مزيد من اللبس الهستيرى بين السياسى والوطنى، ومزيد من الخلخلة للنسيج المجتمعى، فى ظل مقولات تعلى من السياسى على حساب الوطنى، بل وتحط من مشاعر الوطنية وتصف دعاتها بالكفر والردة، وتروج لكافة أسباب الشقاق وتبث العنف وكراهية شركاء الوطن.

فهل من مسمع يعى ويبلغ ما تقوله رسائل البحر الملوث بالدماء؟

(3)

رسالة أيديولوجية

على الساحل الليبى، وقف الجلادون بثيابهم السوداء وقاماتهم المديدة ولسانهم الأعجمى يوجهون رسالة تحدٍ للعالم، مفادها أن أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) هى "أمة السيف". وهى رسالة موجهة أيضا للمسلمين حول العالم ممن خرجوا فى مظاهرات رافعين لافتات المؤازرة بعد مذبحة شارلى إبدو، ولاء لقيم الجمهورية وموادعة ومسالمة لشركائهم فى المواطنة والإنسانية. فقد حمل غلاف الإصدار الجديد من مجلة "دابق" صورة لشيخين مسلمين يحملان لافتة "أنا شارلى" وقد كُتب من تحت الصورة "من النفاق إلى الردة"، ليشدد أحد مقالات العدد على "اختفاء المنطقة الرمادية بين الحالتين".

وهى الرسالة التى تصدرها داعش فى هذا العدد الدامى من مجلتها، الذى لا يبدأ هذه المرة كالمعتاد بصور الكعبة المشرفة والمشاعر المقدسة، بل يُستهل مباشرة بصور ذبح الرهينتين اليابانيتين، تليها صورٌ مفزعة لجثمان الطيار الأردنى معاذ الكساسبة بعد تفحمه، إضافة لصور الرجم والحرق والرءوس المقطعة وإلقاء الشواذ من أعلى البنايات، فضلا عن حوار مع حياة بومدين زوجة أحمدى كوليبالى منفذ عملية المتجر اليهودى فى أعقاب هجمات شارلى إبدو، ومقال يهاجم الرئيس المصرى السابق محمد مرسى لتراخيه مع الغرب ومهادنته إسرائيل وتقصيره فى تطبيق الشريعة. فرسالة المرحلة تلخصها داعش فى مقالة تحت عنوان: "الإسلام هو ديانة السيف لا السلم" مفادها يتفق مع ما جاء فى كتاب "إدارة التوحش" من "وجوب اعتماد الشدة المطلقة" لكون الجهاد بحسب تعريفهم المتطرف فى أقصى جموح راديكاليته "ما هو إلا شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان".

•••

تلك هى الصورة التى تريد داعش أن تصدرها عن الإسلام بواسطة جهاز إعلامى فائق المقدرة، وسياسة إعلامية تنجح فى توصيل رسائلها لشعوب الأرض لا للنخب فحسب، فتبث الخوف وتثير التأمل وتصنع التواصل كما جاء فى حديث منيف عن البحر. "الجانب الاعلامى هو ظهرنا الذى نحتمى به". هذا ما كتبه ناجى فى "إدارة التوحش". لتصل الرسائل إلى الشعوب ولصغار الجند وللمرشحين المحتملين للانضمام من شتى بقاع الأرض إلى الرايات السوداء المتمددة عبر الأفق. وعبر الزمان أيضا. ففى مقطع مصور يدير أحد الدواعش حوارا مع طفل أشقر لامع العينين لا يتجاوز عمره السابعة. يسأله: ما اسمك؟ فيجيب الصغير بلغة عربية تامة وهو يلتهم قطعة حلوى بنهم صغار الكواسر :" أبو قتادة. من فرنسا. وأنتمى للدولة الإسلامية!"

أكاديمية وكاتبة مصرية، حاصلة على جائزة الصحافة العربية

اقتباس

ففى حالتى الصهاينة وداعش، يبدو وكأن الطبيعة الإنسانية فى رفضها الغريزى للشر تلجأ إلى انتحال أقدس المرجعيات لتسكين دفاعات الضمير، تمهيدا لذبحه هو الآخر.

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات