الحصار - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 11:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحصار

نشر فى : الجمعة 2 يونيو 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 2 يونيو 2017 - 9:35 م
المكان محاصر. جملة شهيرة امتلأت بها الأفلام السينمائية والمسلسلات قديمها وحديثها. قد يسبقها أمر: سلم نفسك، وقد يليها تحذير: الضرب فى المليان. الحصار للمكان، للجماد والعتاد وللناس أيضًا، ثمة تاريخ طويل من الحصار، قرون ممتدة طوقت فيها مناطق ومدن وبلدان من الشرق والغرب وحوصرت، جوًا وبرًا وبحرًا، دام حصارها لأيام وأسابيع وشهور، بعضها صمد وبعضها انهزم وأعلن الخضوع. مثل الحصار جزءًا من حروب واتفاقات ومعاهدات، منها ما هو كائن حتى اليوم ومنها ما انقضى وأهيل عليه التراب.
***
ربما تستدعى كلمة «الحصار» فى وقتنا الحالى صورًا متعددة؛ حصار من قوات الأمن لقرية أو مدينة، حصار من بلطجية لنقابة أو صحيفة، حصار من متشددين لفئة أو طائفة أو جماعة تخالفهم الفكر والعقيدة. قد تستدعى الكلمة أيضًا إلى أذهان نسبة لا أظنها كبيرة فلسطين؛ الحصار المادى الذى يطوق غزة فى الدخول والخروج ويخنق حركة البيع والشراء، والحصار المعنوى لصورة من صور المقاومة المزمنة، وحصار الرئيس الفلسطينى الراحل بمقر إقامته فى رام الله لما يقرب من ثلاث سنوات فى أوائل الألفية الثانية، وانتهاء الأمر بالوفاة المريبة التى توجتها الشكوك. اختفى عرفات من المحافل الدولية محاصرًا ثم اختفى من الدنيا جسدًا، وبقيت سيرته؛ خارج سلاسل الحصار.
ثمة حصار اقتصادى بمعزل عن فكرة الاحتلال، تفرضه دول كبرى على أخرى أقل شأنًا وقوة؛ تهدد مصالحها وتتحدى هيبتها. توصم الدول الأضعف بالمروق وتكال لها الاتهامات بخرق النظام الدولى وتوضع فى قائمة الدول الخطرة، ثم تفرض عليها العقوبات وتتقلص المساعدات، فتجبر إما على التمسك بموقفها والتمادى فيه ورفض الانصياع، أو تدفع دفعًا إلى التسليم والاستسلام. حصار اقتصادى طال كوبا والعراق وعقوبات طالت إيران وأخرى فى طريقها لتطال بلدانًا جديدة، خاصة والتاجر الأمريكى يغالى فى أداء دوره، ويضيف إلى متطلباته ما يرهق من حوله شكلًا ومضمونًا.
***
من ضروب الحصار ما هو معنوى، لا يقيد الجسد ولا يعوق الحركة، ولا يمنع تدفق البشر والأموال والبضائع عبر الحدود، لكنه يكبل الروح ويشلها. حصار عاطفى يعتقل المشاعر ويرفض إطلاق سراحها، يعجز الواقع فيه عن التفاعل مع محيطه عجزًا تامًا، كاملًا مكتملًا. حصار يشعر ضحيته بأن هناك ما يثقلها ويفت فى عضدها ويسحق عزيمتها، لكنها لا تراه بوضوح ولا تتمكن من الإمساك به.
كثيرون ممن عرفتهم فى نشاط دائم وحيوية مبهرة وحركة مستمرة، يعانون اليوم حال حصار داخلى مستحكم، يعترفون أنهم مسجونون داخل أنفسهم، غير قادرين على اتخاذ خطوة إلى الأمام؛ خليط من يأس وإحباط وارتباك حول ما ينبغى فعله فى لحظة متردية مجنونة. جمود يكتنف المحاصرين؛ يغادرون البيوت يوميًا ويؤدون أشغالهم فى آلية ومنها يعودون؛ لا تعجبهم الأوضاع ولا هم بالنتائج راضون ومع ذلك يعزفون عن القيام بمبادرة من أى نوع. يدركون أن الحركة واجبة وأن تصحيح المسار حتمى، لكنهم فى حصارهم وكأن الصدأ غزا أحشاءهم واحتل القلوب. الجسد حر والقيد من نسيج لا يرى بالعين لكنه موجود.
***
فى بعض الأحوال يكون الحصار المعنوى أسوأ من الحصار المادى. أن تتحدد إقامة الفرد بمكان؛ منزل، شارع، منطقة أو حتى سجن، قد يصبح أهون من تحديد إقامته داخل ذاته؛ لا يطل خارجها ولا يبارحها.
الحصار شكل من أشكال الإذلال والقهر، وما الحصار النفسى الذى يعانيه الكثيرون هذه الأيام إلا امتداد لحصار مادى يطال كل شىء من حولنا بعد فشل أصبناه وتربع فوق رءوسنا. أصناف وألوان من الحصار بتنا نتعثر فيها يومًا بعد يوم؛ قوانين تصك لإحكام السيطرة على الناس، ومواقع إلكترونية يجرى حجبها على الرغم مما عرف عنها من التزام بمعايير الصدق والموضوعية، وقنوات تلفزيونية تغلق أو تباع فتتغير مبادؤها وأفكارها ومثلها صحف ومجلات، وقرارت اقتصادية تسحق الطبقات المعدمة وتبتلع ما فوقها وتريق ماء الوجوه التى لم تعتد بؤس الحاجة. إجراءات تتخذ ظاهرًا باسم القانون، وتضاف إليها تهديدات لا يفتأ النظام يصيغها ويرسلها إلى الجميع، بأن القفز على الدستور والقوانين والتشريعات جميع أمر وارد الحدوث؛ لا أسهل منه ولا أبسط.
***
لا تعدم الجماهير العريضة، المتمرسة بألاعيب حكامها وأنظمتها، أساليب للتحايل على الحصار المضروب حولها، ولا تنفك تبحث عن الثغرات حتى تجدها، لكن الشعور بأنها محاصرة، وأن إحكام القبضة حولها يشتد، يظل شعورًا حاضرًا وموجعًا. تنجح محاولات التملص من ضيق المساحات واضمحلال الهوامش بوسيلة أو أخرى، لكنها تبدو غير كافية لكسر الحصار وفك قيود الروح. أغلبنا فى حال الحصار حتى هؤلاء الذين يظنون أنهم أقوى وأعتى، هؤلاء الذين يظنون فى أنفسهم القدرة على محاصرة الآخرين.

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات