آه يا لالى - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 4:02 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

آه يا لالى

نشر فى : الأحد 2 أغسطس 2015 - 5:40 ص | آخر تحديث : الأحد 2 أغسطس 2015 - 5:40 ص

هناك فى مقهى السبع حصون ببورسعيد، ظهر عبدالله كبربر قادما من جنوب مصر إلى مدن القناة، وأتت معه آلة السمسمية. أخرج من جرابه الآلة الخشبية ذات الخمسة أوتار وبدأ فى العزف، ولم ينته إلا بعد ثلاث سنوات كاملة قضاها فى استضافة صاحب المقهى ــ حسن متولى ــ الذى كان يهوى فن الضمة هو الآخر، بل كان أحد أقطابه.

احتضنت بورسعيد التى ارتبطت نشأتها بحفر قناة السويس هذا الفن لكونها مدينة جديدة قادرة على استيعاب تراث العمال الذين توافدوا عليها من كل حدب وصوب، فى بداية القرن التاسع عشر. امتزج تراث هؤلاء خلال سهرات السمر التى تعقب ساعات العمل الشاق، أخذوا يتبادلون الهموم ويعبرون عن أشواقهم للحبايب وعن مشاعر الغربة والسخرة، من خلال أغنياتهم.. عمال تراحيل، مقاولى أنفار، بحارة، سائقى لنشات... خلطوا الطقاطيق والأدوار وأغانى الصوفية والعوالم والإيقاعات البدائية وخطوات راقصة مستوحاة من حركات العمل فى الميناء والبحر ليظهر تدريجيا فن الضمة الذى سترافقه فيما بعد آلة السمسمية وترتبط به ارتباطا وثيقا بمساعدة عازفين ذوى أصول نوبية أو جنوبية، عرفوا الآلة الشعبية كما عرفها الفراعنة من قبل أو ما يشابهها. خرج ما كان يدور فى أعماق الإنسان وقتها فى شكل أغنية وحركة ورقصة بلورت جميعها إحساسه باللحظة وتعليقاته عليها بتلقائية تميز عادة الفن الشعبى. مزيج اجتماعى ممتع وصريح، فيه الشجن والطرب والسخرية والوطنية والسخط والحب واللوعة، فإذا به ينتشر فى المدن الساحلية المجاورة، ويستمر، بل ويتخذ أشكالا جديدة بعد الانتهاء من حفر القناة ليلازم تاريخ المنطقة وما عاشته من حروب ومقاومة وتهجير.

مثلا فى فترة ما قبل العدوان الثلاثى، كانت جلسات الضمة تعقد فى الشوارع بعد صلاة العشاء وتسمى حسب مكان إحيائها: ضمة شارع البحر يقودها الريس عبدالقادر، ضمة شارع السرايا يقودها الريس محمد يوسف، ضمة قسم أول يقودها الريس عبدالهادى... وكان الأهالى يرحبون بها ويشاركون فى الإعداد لها بتقديم كرسى الحمام ليجلس عليه الصحبجية وبفرش الأرض بسجادة كبيرة يلتف الفنانون حولها فى شكل دائرى وبمواقد نار تتوسط الضمة لشد الطبول واحتياجات الدخان.

***

بنى الريس حسن متولى، أشهر صحبجية بورسعيد، مقهى السبع حصون فى أحد العقارات التى امتلكها فى حى المناخ، ليجتمع فيه مع الأصدقاء. كتب عليه فى البداية «النادى المصرى السودانى» ثم أطلق عليه الناس اسم «السبع حصون» لأن كل حارة من حارات المناخ السبع كانت تسمى حصنا، ولكل حارة ركن فى المقهى الواسع يجمع أهلها. كانت خناقات الحارة لا تحل سوى فى«السبع الحصون»، فصاحبه حسن متولى كان فتوة المناخ كله، وهو الحى الذى يرجع تاريخ إنشائه لحفر قناة السويس، وأغلبية سكانه من الصيادين.

حكايات المناخ لا تنتهى وقد وفد إليه عازفو السمسمية المهرة، سواء عبدالله كبربر أو من بعده محمد عثمان ود النجى الذى أتى أيضا من الجنوب... لذا فهناك أدوار نوبية انتشرت فى مدن القناة مثل «علشان جرجيه وعلشان جرجوه» أو غيرها من الأدوار التى انتقلت من الشام إلى دمياط ومنها إلى مدن القناة مثل «زارنى المحبوب من رياض الآس» و«آه يا لالى يا لالى يا أبو العيون السود يا خلى (...) يا رايحين حلب حبى معاكم راح يا لالالى، يا مدوقينا العنب العنب تفاح يا لالالى».

***

عالم كامل بشخوصه ومرجعياته، يلبسون قبعة أفرنجى أو«كاسكيتة» بحارة أو حتى طربوشًا كما اختار لنفسه أبو العربى أو أحمد مجاهد، أحد أهم مؤسسى فرقة «الطنبورة البورسعيدية» ومن كبار حفظة تراث فن الضمة، الذى توارى عن عالمنا منذ أيام. كان يصر أن يرتدى الطربوش ويتحرك بخفة بين الجمهور وهو يؤدى دور«بقد الكد». اتخذ لنفسه كنية «أبو العربى» كالعديد من البورسعيدية، اعتزازا بأول المتوفين فى حفر القناة: عامل بورسعيدى من حى العرب، كان ينقل الفحم على العجلة للخواجات وأصيب بالكوليرا لذا شاع اسم سيد العربى أو أبو العربى بين أهل المدينة الساحلية، كما ذكر قاسم مسعد عليوة فى كتابه «المدينة الاستثناء، قراءة مورفولوجية لمدينة بورسعيد».

بعد أيام من موت أبو العربى (أحمد مجاهد)، يظل رنين السمسمية فى الأذن، بمسحته الشعبية العريقة، ونتوقف عند ما سينتجه الحفر العالى للقناة، نتساءل عما سيسفر عنه من أغنيات وهل ستتوافر لها التلقائية نفسها؟ ما الذى قاله عمال الحفر فى الماضى وما الذى يحمله فى جعبتهم العمال الحاليون؟ هل مدن القناة مازالت قادرة على استيعاب التراث الثقافى لكل من جاءها للحفر؟ وما أشكال التفاعل إذا وجد؟... إجابات الأسئلة تؤرخ لواقع جديد لا يقل أهمية عما سبق، والتفاصيل الصغيرة قد تشى بالكثير من الذى لا يقال عادة. التاريخ كما يكتبه الشعبيون.

التعليقات