النصاب - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 5:13 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

النصاب

نشر فى : الجمعة 3 مارس 2017 - 10:10 م | آخر تحديث : الجمعة 3 مارس 2017 - 10:10 م
مع كل عملية نصب جديدة تتداولها وسائل الإعلام، أتذكر دور أحمد مظهر فى العتبة الخضراء، الفيلم خفيف الدم الذى أُنتِجَ عام ١٩٥٩، وأخرجه فطين عبدالوهاب وشاركت النجمتان صباح وزينات صدقى فى بطولته، وبالطبع لعب إسماعيل ياسين دور المنصوب عليه، القروى الساذج الغَفِل، صاحب الثروة الطائلة، الذى يقع ضحية تلاعب وذكاء النصاب.

تلخصت عملية النصب التى قام بها أحمد مظهر فى بيع منطقة العتبة بما تضمّ مِن شوارع وما عليها مِن مَرافِق وأملاك، للمشترى الذى يتصور أنه ثاقبُ الرؤية، شديدُ الفطنة، وأنه يعقد صفقة عمره، وفى هذا السياق الهزلى تتوالى الأحداث، وتتم العملية إلى أن يفيق البطلُ فيجد نفسَه وقد تعرَّض إلى خديعة كبرى.


***
لم يكن أحمد مظهر هو الوحيد الذى باع مَعلما مِن معالِم المدينة، ولا أكثر مَن فعلوا كفاءة، فعلى أرض الواقع وبعيدا عن السينما والأفلام، هناك مَن باع برج إيفل فى فرنسا ومَن تمكَّن مِن إقناع زبائنه بشراء جسر بروكلين فى الولايات المتحدة.

عادة ما يتمتع هذا النوع مِن النصابين والمخادعين بقدرة عالية على الإقناع، تتأتى لهم عبر صَكِّ عباراتٍ مَعسُولة، وتتأتى كذلك وهو الأهم؛ عبر الظهور بمظهر أنيق ناعم، والمظهر هنا هو سرّ القبول وجواز المرور إلى قلوب وأموال المَنصُوب عليهم. البذلة ورباط العنق والحذاء اللامع هى عوامل الجذب المعتادة، لكنها ليست دائما البوابة، فأحيانا ما يكون الجلباب والقبقاب والشارب المحفوف مُفسِحا المكان للحية طويلة، أكثر تأثيرا، وربما تضاف زبيبة صلاة؛ كلٌّ بحسبِ الجمهور المَقصود. فى الأحوال جميعها تأخذ العقولُ عَطَلَة طويلة، كما لو كانت مُخدَّرَة مَسحورة.

المُدهش أن الفاعل لديه دائما مَشروع نصبٍ لا يُعقَل، مع ذلك يجد الشخص المناسب للامعقول؛ الشخص الذى يصدقه ويجعل مشروعه مُمكِنا ومُربِحا وبأقل ثمنٍ وبجهدٍ بسيط.


***
يُذكَرُ مِن بين نصَّابى الأفلام السينمائية خفيفى الدم، القديرُ كمال الشناوى فى فيلم طأطأ وريكا وكاظم بيه ومعه زميل النصب أيضا نجاح الموجى، كما يُذكَر العظيمُ أحمد زكى فى فيلم أحلام هند وكاميليا، الفيلم الأول مِن إخراج شريف شعبان والثانى مِن إخراج محمد خان.
على قائمة النصابين المُحترفين الذين نالوا شهرة عالمية فرانك أباجنيل، المواطن أمريكى الأصل الذى انتحل صفة طبيب ومُحامٍ وطيار قبل أن يتم الإيقاع به، وقد استولى على مبالغ مالية طائلة عبر شيكات مزورة، وفى نهاية الأمر عمل فى مجال مُكافحة الاحتيال، ولأن حياته بدت شديدة الثراء والجاذبية فقد قدمها ليوناردو دى كابريو فى الفيلم السينمائى الشهير Catch me if you can.


***
مُقدِّمة النصب الطويلة هذه ما هى إلا استعادة شديدة الإيجاز لشذرات مِن تاريخٍ إنسانيٍّ طويل، فأشخاص كثيرون فى شرق العالم وغربه امتهنوا الاحتيال وصنعوا بفضل لباقتهم وعبقريتهم الخبيثة ثرواتٍ هائلة، بعضهم استقر فى السجن وصودرت أمواله، والبعض استطاع تهريبها، والبعض الآخر هرب معها، وقد بلغت مكاسب عمليات الاحتيال الواسعة ما يقدر بالملايين بل ربما المليارات.

نصَّاب الأسبوع الماضى لم يشذّ عن قاعدة خِفَّة الدم، اختار أمرا لا يُعقَل ونفَّذَه وعثر على مَن يُصدِّقه ويرحب به، ارتدى أفخم ما وَجَد، وتزوَّد بالصور وبطاقات المُهمِّين واصطنع مع عددٍ مِن المسئولين صورا فوتوجرافية وراح يؤدى مُهِمَّته. دَخَلَ العزاءَ وعَرَّف نفسه بصفته مستشارا ومندوبا رئاسيا رفيع المستوى، ورسم الهيبة والأهمية والنفوذ، نظر من علٍ ورفض الكلام مع الصحفيين احتراما للموقف الأسيف. استضافه كِبارٌ، وحَصُلَ على دعواتٍ للغِذاء والعشاء وأعطى توصياتٍ مَمهُورة بتوقيعه، ووضع عينه على الضحايا المُحتملين، وقال لمن اندهشوا وهو يرمى بشباكه إن مؤسسة الرئاسة تقبل الجميع بغضِّ النظر عن انتماءاتهم، شريطة الالتزام بالفكر «المعتدل»، لأنها تهتم بأن «كل الناس يكونوا كويسين»!!

ألقى القبض على الرجل وبحوزته أدوات النصب وعدّته، وقد سجلت الكاميرات صورته وكلامه، لم يكن سقوطه لعيب فى تقمُّص الشخصية أو فشل فى أداء الدور، بل كان لفرط جنوح الفكرة، فقد تشكك بعض الناس فى الرجل الذى صاحبهم إلى المقابر وأبلغوا عنه.

***

لا أدرى إن شَذَّ الرجل بفعلته هذه عن قاعدة الذكاء وحِنكَة التدبير، فمندوبٌ مِن الرئاسة فى عزاءِ الزعيم الروحىّ للجماعة الإسلامية فِعلٌ مُبالَغ فيه. أتصور وله فى ذلك كل العذر، أنه تنسم فى الأجواء عبثا فاق شطحات الخيال؛ راقب وفكر وحلَّل ما يدور فأدرك أن كل شىء صار ممكنا ومباحا ومتاحا، وأن العالم من حوله يشهد غرائب كثيرة تتحدى المنطق، ولأننا نحتل قمة اللامنطق عن جدارة ونتجاوز يوما بعد يوم عن فيضٍ مِن الأعاجيب، فقد ظن النصَّاب العتيد ألا ضير مِن أن تسع قائمتُنا عجيبة أخرى صغيرة، لكنه لسوء حظه لم يكن مُحقا فبيع العتبة أو مرفق الإطفاء أو حتى أبى الهول بدا للناس أيسر مِن تصديق خدعته.

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات