دروس عبدالمنعم تليمة - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 7:39 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دروس عبدالمنعم تليمة

نشر فى : الجمعة 3 مارس 2017 - 10:05 م | آخر تحديث : الجمعة 3 مارس 2017 - 10:05 م
برحيل الناقد والمفكر والأستاذ الجليل الدكتور عبدالمنعم تليمة (توفى الأسبوع الماضى عن ثمانين عاما) يسدل الستار فعليا على جيل كامل من الأكاديميين والمثقفين الذين تتلمذوا بشكل مباشر على يد طه حسين. ربما كان تليمة آخر تلميذ نابغة استمع إلى محاضرات طه حسين وتخرج فى مدرسته الفكرية والمنهجية واستقى منه بشكل مباشر قيم التقدم والاستنارة واللوازم المعرفية والفكرية الضرورية للخروج من أنفاق العصور الوسطى إلى آفاق العصور الحديثة.

عبدالمنعم تليمة لم يكن مجرد أستاذ جامعى من طراز فريد، ولا إنسانا رفيع الخلق يحكى ويتحاكى عن مواقفه الإنسانية العالية تلاميذه فى كل مكان، فى مصر وخارجها، إنما كان فى الأساس ممثلا لحزمة من القيم والمواقف الإنسانية والفكرية والتنويرية «الحقيقية» التى ظل طوال عمره متمسكا بها محافظا عليها فى غير ادعاء ولا تكلف ولا اصطناع.

لحظّى وحظ أبناء جيلى ممن تخرجوا فى كلية الآداب (قسم اللغة العربية آدابها) جامعة القاهرة، فى العقدين الأخيرين، فإننا شرفنا بالتتلمذ على يد عبدالمنعم تليمة، كان اسمه كناقد وأستاذ جليل ملء السمع والبصر، يدرس علم جتماع الأدب والأدب المقارن والنقد الأدبى. قبل التحاقى بالكلية كنت أعرف الاسم وأعرف إسهاماته الفكرية والثقافية العامة، خصوصا أنه كان عائدا لتوه من رحلة طويلة لليابان، قرابة السنوات العشر أمضاها هناك وتركت أثرا كبيرا فى مجمل آرائه عن التعليم وقضاياه ورؤى إصلاحه.

عاد تليمة مأخوذًا بالتجربة اليابانية فى العلم والتقدم والتكنولوجيا والعمل، وأدرك أن كلمة السر وراء ذلك كله هو «التعليم»، التعليم هو المبدأ والمعاد، ويعكف تليمة بعدها إعداد كتاب كبير حول هذه التجربة، أعلن فى غير مناسبة أنه بعنوان «تخليص البيان فى تلخيص اليابان»، استهداء بكتاب الشيخ التنويرى الجليل رفاعة الطهطاوى «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز». لكنى حتى اللحظة لا أعلم إن كان نَشَر هذا الكتاب أم لا.

وفى السنوات الأولى من الكلية، تعرفت بشكل أكثر توسعا وإلماما على جوانب من إسهامات تليمة النقدية والفكرية، خاصة أن كان من المقلّين فى النشر العام، كل ما استطعنا الحصول عليه من كتبه المنشورة كتابيه التأسيسيين: «مقدمة فى نظرية الأدب»، و«مداخل إلى علم الجمال الأدبى»، ولأنهما كتابان فريدان فى بابهما وتنظيراتهما ورؤاهما الجمالية والمعرفية فقد كانت قراءتهما كذلك تستدعى احتشادا وتفرغا وتركيزا كبيرا.

لكن الطموحين منا استطاعوا بدأب أن يتتبعوا نتاجاته المنشورة فى صورة مقالات أو دراسات أو مراجعات مهمة فى كتب مشتركة، هكذا قرأت بانبهار ما كتبه عن «نجيب محفوظ تراثا»، و«الموقف الفكرى وجمالياته عند نجيب محفوظ»، وهما من أهم وأدق ما كتب عن مجمل المشروع المحفوظى روائيا وجماليا، قدرة رهيبة على التجريد واستخلاص الأفكار الكبرى والمعالم الجوهرية فى مشروع رواية نجيب محفوظ.

وقرأت له أيضًا التحليل الفذ لمسرحية «السلطان الحائر» لتوفيق الحكيم، وحينها أدركت أننى أمام ناقد عملاق، نافذ البصيرة، واسع الثقافة، غزيز المعرفة، يمتلك ذهنا تحليليا ليس له مثيل. ثم، ومع تنامى الاهتمام بالدوائر الأوسع التى ساهم فيها عبدالمنعم تليمة على الصعيدين الفكرى والثقافى، بدأت أتعرف على تليمة «المفكر» المهموم بإشكاليات النهضة والتحديث ضمن مشروع محدد المعالم واضح القسمات لقراءة رحلة الفكر العربى منذ بواكيره حتى اللحظة الراهنة، وهو ما قدمه فى أكثر من مساهمة منشورة أو فى محاضراته التى لا تحصى أو مشاركاته البحثية والندوات وأثناء مناقشاته الثرية لرسائل الماجستير والدكتوراه.

ثم كان الاكتشاف الكبير الذى أهدانا إليه أستاذنا الجليل عبدالحكيم راضى (مد الله فى عمره ومتعه بالصحة والعافية) حينما درس لنا نصوصا من رسالة عبدالمنعم تليمة للدكتوراه عن «نظرية الشعر فى النقد العربى الحديث.. ماهية الشعر ومهمته: درس فى النقد المقارن». هنا كانت لحظة فارقة فى التعرف على منهجية تليمة ودروسه الكبرى، فى الاعتداد بفكرة المنهج (بمعنى طريقة التفكير والبحث) وانشغاله بهم «التأصيل» فى درسه للظواهر الفكرية والأدبية، والبحث عن ما وراء الظواهر والنصوص، لاستخلاص القوانين العامة وجذورها المعرفية والفلسفية، وفى سبيل ذلك يحلل عبدالمنعم تليمة النصوص (أدبية كانت أو نقدية) برهافة وعمق وذكاء منقطع النظير.

انفتحت الأبواب على مصراعيها، فكان حضور تليمة القوى، تلميذ العميد النجيب، ليحرر كتاب «طه حسين مائة عام من النهوض الفكرى»، واحد من أهم الكتب التى حللت ودرست إسهامات طه حسين الفكرية والتربوية والنقدية، وللأسف فإن هذا الكتاب لم يعد طبعه ولا نشره منذ 1989 حتى وقتنا هذا رغم حاجتنا الملحة له. ويشرف تليمة كذلك على المجلد الضخم الرائع بعنوان «الأدب العربى الوحدة والتنوع» الذى ضم دراسات بأقلام كبار النقاد والأساتذة وكتب له المقدمة.

أما أهم درس وأبقاه تركه لنا تليمة، فهو سيرته ذاتها؛ سيرته كأستاذ وناقد ومعلم وإنسان، يعرف مسئولية الكلمة ويحترم قيم الحرية والعدالة والتقدم ويبذل عمره راضيا فى سبيل الدعوة إليها ونشرها مهما تكاثفت الغيوم وانسدت الآفاق.