من الخصخصة إلى الأصأصة - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 8:53 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من الخصخصة إلى الأصأصة

نشر فى : الجمعة 3 أبريل 2009 - 6:33 م | آخر تحديث : الجمعة 3 أبريل 2009 - 6:33 م

 حينما بدأت موجة ذبح القطاع العام وتسليمه وجبة دسمة لقطاع خاص لم يكن موجودا أصلا، حار الناس فى تسمية ذلك الفعل.. فمن أسماه تخصيصية لأن التخصيص يعنى شيئا آخر فى الاقتصاد، ومن أسماه خوصصة، ومن دعاه «برفتة» لرده لأصله الإنجليزى privatization.

وقاد الزميل د. سلطان أبوعلى حملة استقرت بالاسم إلى خصخصة اشتقاقا من الخاص.. واشتق البعض من هذا الأخير اصطلاح عمعمة نسبة إلى القطاع العام. ونحن الآن أمام صيغة جديدة للخصخصة أطلق عليها الملكية الشعبية للأصول. وحتى تستقيم الأمور، نقترح تسمية هذا الفعل الجديد باسم مشتق من العنصر الأساسى فيه وهو الأصول، هو «الأصأصة» تذكيرا بسلفه، الخصخصة، وتذكيرا بالهدف منه وهو «قصقصة» القطاع العام.

وأيا كان الأمر، فإن القضية التى يجب أن تطرح هى الهدف من العملية التى نحن بصددها فيما يسمى بالخصخصة. فحينما ابتدعت ثاتشر الخصخصة كانت تسعى للتلاقى مع قطاع الأعمال الأمريكى الذى أطلق له ريجان العنان، وحصلت مقابل ذلك على تأييد أمريكى أعادها إلى السلطة، دون أن تظل بريطانيا شريكا ثانويا فى الاتحاد الأوروبى الذى بدأ يعمق البعد الاجتماعى، فمكنها من التمرد على السياسة الاجتماعية التى أقر بها حقوق العمال فى مواجهة اشتداد قبضة رجال الأعمال على النشاط الاقتصادى فيه..فهى لم تكن تؤمن بشىء اسمه مجتمع، وتعطى الكلمة الأولى والأخيرة لرجال الأعمال.

وفى دولة شهدت ميلاد الثورة الصناعية، كان هؤلاء فى الانتظار بالمعرفة وبالمال، فواصلوا دفع التقدم حتى فى ظل القطاع العام. أما البلدان النامية التى يعوزها الأمران فقد تولت فيها الدولة تدبيرها عن طريق تخطيط ينظم سبل الحصول عليهما بمعونة فنية واقتراض يضيف إلى ما تخصصه فى موازناتها العامة لأغراض الاستثمار. وبعد أن أنهكتها الاضطرابات الاقتصادية والنقدية التى انتقلت من الدول الصناعية الكبرى فى السبعينيات والثمانينيات، فرض عليها «توافق واشنطون» سيادة القطاع الخاص كأساس لما يسمى برامج الإصلاح الاقتصادى، على رأسها الخصخصة. وفى مناقشة مع أحد رجال البنك الدولى حول ذلك، أجابنى أن العالم قد أجمع عليها !! وحينها قلت لقد سبق أن أجمع العالم المزعوم على تبرير الرق والاستعمار، فهل كان إجماعه دليل صحتهما، أم لأن ضحاياهما لم يكن لهم صوت يسمع؟

لو كان القطاع الخاص موجودا أصلا ويملك المال والمعرفة لكان الأجدر إفساح المجال أمامه للدخول فى استثمارات جديدة. وفى ظل هدف مضاعفة الدخل خلال عشر سنوات، كان يمكن للقطاع الخاص أن يضيف ما يوازى حجم الناتج القائم وقت اتخاذ قرار الخصخصة فى عشر سنوات، مع ملاحظة أن القطاع العام لم يكن منفردا به، بل كان هناك نشاطات عديدة يسيطر عليها القطاع الخاص.

أما إذا لم يكن موجودا فإما أن يتحول المشرفون على القطاع العام إلى رجال أعمال يهيئون لامتلاك المنشآت التى يعملون فيها بتنمية ثرواتهم بطرق تتجاوز إيراداتهم المشروعة من العمل فيها، وترك الوحدات تتدهور حتى يتقرر الخلاص منها فيستولوا عليها بثمن بخس، وإما أن يشتريه مستثمرون أجانب، وهنا يوجد احتمالان: الأول؛ أن تكون المنشأة العامة ذات أهمية إستراتيجية بالنسبة لهم ــ وبخاصة عابرات القوميات ــ ليتحكموا من خلالهم فى الاقتصاد المصرى، والثانى؛ أن يأتى ممولون لا تتوافر لهم الخبرة الفنية أو الذين يعتزمون إجراء مضاربة، خاصة إذا كان لدى المنشأة أصول يمكن أن ترتفع قيمتها فى وقت قصير، خاصة العقارية.

ويغلب على الاستثمار العربى هذا الطابع فى ظل محدودية التقدم التكنولوجى فى بلدانه الأصلية. وقد ضاعت التسعينيات وما تلاها فى جدل حول الخصخصة، وبأى المنشآت نبدأ: الخاسرة أم الرابحة؟. وبدأ المشرفون على القطاع العام يهيئون أنفسهم للاستيلاء على ما يديرونه من شركات عامة، وانصرفوا عن النهوض بأدائها. وبات نجاح الحكومات المتتالية يقاس بسرعتها فى الخصخصة.

وحينما تصاعدت الانتقادات على الخصخصة داخل مصر ــ وخارجها وهو الأهم ــ جرى انتهاز دعوة الرئيس فى مؤتمر الحزب للتفكير فى طرق إبداعية لتحقيق العدالة الاجتماعية ومراعاة الأجيال القادمة، فاخترعت فكرة إشراك الشعب فى عملية الخصخصة، ليصبح «محللا» لما تبقى منها. وأطلق عليها اسم برنامج لإدارة الأصول المملوكة للدولة وطرحها للملكية الشعبية. فاختير من الشعب أربعون مليونا ليتولوا الملكية والإدارة جنبا إلى جنب مع الحكومة السنية.

فهل هذه الملكية كل ما يستحقه الشعب؟، وهل الإدارة فى نطاق قدرات واهتمامات هؤلاء؟، وهل سبق لهم أن ادخروا واجتهدوا لكى يكتسبوا مهارة استثمار ما ادخروه؟. من أين يأتى هذا لشخص أقصى أمانيه أن يجد ما يوفر به أجر درس خصوصى لابنه من طريق شريف، أو شاب يتسكع على المقاهى إن استطاع لها سبيلا ليشغل فراغا ينتظر فيه تحقق فرصة عمل لا تأتى؟ وأين لمزارع أن يدرك مغزى ورقة لا يستطيع قراءة سطورها، ولا يجد من المال ما ينفقه على حضور جمعية عمومية يقال له إن من الواجب عليه المشاركة فيها للإدلاء برأيه فى كيفية تسييرها، وهو لا يدرك ماهية نشاطها؟، وهل الجمعية العمومية هى مكان الإدارة أم الرقابة على أداء الإدارة؟، وما هى قيمة الصك الذى يملكه فرد فى إكسابه صوتا مؤثرا؟

حينما واجهت مصر فى 1976 مشكلة محدودية الموارد اللازمة لتمويل استثمارات غلب عليها تصحيح أوضاع القطاع العام بعد ما عاناه منذ حرب 1967 من توجيه الموارد لأغراض الحرب، ومن تقاعس العرب عن تقديم ما وعدوا به من تمويل أصبح متاحا مع ارتفاع أسعار البترول، اقترحت على د. عبد المنعم القيسونى أن نتحول إلى قطاع مختلط، تستبقى فيه الحكومة ملكية 51% وتملّك 25% للعمال من حصتهم فى الأرباح ويطرح الباقى للاكتتاب الشعبى لامتصاص المدخرات التى كان يبددها من أسماهم السادات بالطفيلين.

وكانت الأهداف هى: مضاعفة الموارد التى توجهها الحكومة للاستثمار، وإشراك العمال فى الملكية والجمعيات العمومية، على أن تضع وزارة التخطيط أسس السياسات التى توجه مختلف أوجه التنمية. غير أن ضغوط صندوق النقد للدفع باتجاه كامب ديفيد، حالت دون ذلك.

يبدو أن الحكومة أرادت فى خبطة واحدة أن تصبح بدون أصل، ويبدو أنها بعد أن فرغت من التطبيع مع إسرائيل، انتقلت إلى التطبّع بطباعها التى تمارسها مع العرب، فكلما ارتفع صوتهم بشأن مشكلة أوجدت لهم غيرها فيتلهون بها وينسون ما سبقها.

لقد تركز الجدل حول الأصأصة وخفتت الأصوات التى كانت تقاوم الأصل وهو الخصخصة، التى هى فعل فاضح فى المال العام. وغاب الحديث عن جوهر الموضوع وهو التنمية. ولو أنها أدركت بعد أن ألغت لقب «التخطيط» من وزارته وأسمته «التنمية الاقتصادية» لترضى القطاع الخاص، تاركة التنمية الاجتماعية لأصحابها، لعملت على النهوض بقدرات الشعب على الادخار أولا والاستثمار ثانيا، ولركزت جهودها على تنمية بشرية شاملة تكسب المواطنين القدرات الذهنية والبدنية لرفع كفاءتهم الإنتاجية، وحرصت على القضاء على الفساد وتوفير مقومات الخُلق القويم.. حتى لا يتعرضوا لمقولة «إن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا». وأول واجبات صاحب هذا الخُلق هو الحرص على حقوق يملكها الشعب لا اغتصابها.

وقانا الله شر قلة الأصل.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات