مقاس كبير - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:24 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مقاس كبير

نشر فى : الخميس 3 أغسطس 2017 - 8:45 م | آخر تحديث : الخميس 3 أغسطس 2017 - 8:45 م
لم تفلح نظرات الأم النارية لابنتها فى أن تردعها أو تقنعها بتجربة البنطلون الچينز الذى نزلت معها خصيصا لشرائه. كان كل شىء يبدو على ما يرام حين وقع اختيار سالى على البنطلون الذى تريده.. أزرق داكن كما تفضله.. سكينى كما ترتديه الكثير من البنات فى مثل عمرها وأكبر.. به رقعتان صغيرتان مكسوتان بقماش الدانتيلا الأبيض عند الركبتين وكان هذا هو الحل الوسط الذى توصلت له سالى مع أمها بعد طول رفض وممانعة لموضة البنطلون الممزق، ثم إذا بالمشهد كله يتغير فجأة حين تطلب الأم من البائعة أن تأتيها ببنطلون مقاس فتاة ما بين أحد عشر واثنى عشر عاما. انتبهت الابنة على حديث الأم مع البائعة فيما كانت هى تقلب بين يديها البنطلون الذى اختارته فتوترت.. اقتربت من أمها وهمست فى أذنها بصوت مسموع «عشر سنوات.. من فضلك يا ماما بنطلون لعمر عشر سنوات» لكن كأنها لم تنبس، أشارت الأم للبائعة أن تذهب لتأتيها بالمطلوب فذهبت وتكهرب الجو .
***
منذ أن بدأ مشوار البحث عن چينز جديد قبل الذهاب إلى المصيف السنوى وسالى تخشى لحظة اختيار المقاس، عادة فى مشاوير التسوق المماثلة تخشى البنات ألا تجدن المقاس المناسب لأعمارهن أما هى فإن عليها دائما أن تفتش بكل همة عن المقاس غير المناسب. عندما تعتصر سالى ذاكرتها منذ أن بدأت تعى الأشياء وتدركها لا تجد مرة واحدة ارتدت فيها فستانا أو حذاء أو حزاما أو مريلة أو حتى خاتما ذهبيا على مقاسها، دائما هناك نمرة أكبر من حجمها وأحيانا نمرتان وكأنها تشترى أشياءها للمستقبل. يلازمها إحساس مؤلم بأن جسدها عبارة عن «حصالة» كبيرة تدخر فيها أمها كل ما تخشى أن يزيد سعره غدا أو بعد غد، أو بأنها مشجب خشبى قديم تُعلق عليه الثياب الكبيرة فى انتظار أن يخرطها فجأة خراط البنات وتصبح تلك الثياب مناسبة لها تماما. وهكذا ارتدت سالى فى الرابعة ثياب السادسة وفِى السادسة ثياب الثامنة وها هى الآن توشك أن تُعلق فوق جسدها ثياب الثانية عشرة .
***
فى محاولتها أن تعبر للأم عن ضيقها فى مثل هذه المواقف لجأت سالى إلى كل الوسائل، استدرت العطف فقالت إن زميلات المدرسة والنادى يسخرن منها ويتندرن عليها وهى ترفل فى ثيابها الفضفاضة التى يتوارى فى اتساعها قوامها النحيل ــ والحق أنها بذلك كانت تقول نصف الحقيقة فكثير من زميلات المدرسة والنادى لهن نفس مشكلتها، أضربت عن شراء لوازمها ما لم تكن على مقاسها ــ واكتشفت لاحقا أنها إنما تُمارس جلد الذات ولا تعاقب إلا نفسها، تفتق ذهنها عن أن تدخر من عيديتها لتشترى لنفسها ما يناسبها ــ ثم فهمت أن امتلاك المال شىء وممارسة حرية الاختيار شىء آخر مختلف تماما، وسّطت من يحاول إقناع الأم بأن من حقها أن تكبر معها فساتينها سنة بعد أخرى ولا تنتظر أن يتأقلم خصرها الرفيع مع الثوب الأكبر وفشل وسطاؤها أو ربما هم لم يقتنعوا ابتداء.. رجت وبكت وانطوت لكن ذهبت جهودها أدراج الرياح فصُنِفت شكواها على أنها بطر ونُظِر لمظلمتها على أنها دلع البنات.
***

لم تستطع سالى أبدا أن تفهم لماذا يُكتٓب عليها ألا تكون نفسها.. ألا تستمتع بعمرها.. ألا تلبس مقاسها.. أن تعيش أبد الدهر فى دور عبدالوهاب ابن الحاج عبدالغفور البرعى فى رائعة إحسان عبدالقدوس « لن أعيش فى جلباب أبى». هى تحب جدا نهاية هذا المسلسل وتستعجلها كلما أتيح لها أن تتابع حلقاته، تحب نهاية المسلسل لأن فيها يتمرد الابن على جلباب أبيه ويرفض أن يلبسه حتى وإن كان الأب ناجحا وغنيا ومشهورا، تحب نهايته لكنها تعلم أنها هدف بعيد المنال فبين عمرها وعمر عبدالوهاب بطل المسلسل ما يزيد عن عشر سنوات، وإلى أن تكون فى مثل عمره فإن عليها أن تعيش فى غير جلبابها وهى ابنة السنوات العشر. تَرى الثوب فى ڤاترينة هذا المحل أو ذاك فيأخذ عقلها حتى إذا ما ارتدته ووقفت به أمام المرآة وجدتها تعكس صورة ليست صورتها، هذه الأكتاف المهدلة وتلك السنتيمترات الزائدة طولا وعرضا تجعل الثوب يفقد أناقته وتفقدها إحساسها بأنها هى هى. تكتشف سالى تلك الازدواجية فى سلوك الأهل حين يعاملونها أكبر من سنها حين يتعلق الأمر بالثياب بينما يعاملونها أقل من عمرها حين يتعلق الأمر بفسحة مع الصديقات أو برحلة لشرم الشيخ ولو تحت إشراف المدرسة، فى هذه اللحظة فقط تُعامل سالى باعتبارها طفلة فى العاشرة تكبلها عشرات المحظورات فالمجتمع تغير ولم يعد الناس كما كانوا أيام زمان. تضحك فى سرها مرغمة قائلة: أعيش بروحين وعمرين بنفس الاسم ولقب العائلة وأكبر وأصغر حسب الموقف والظروف هل هذا معقول؟ .
***

أما الازدواجية التى لم تتبينها سالى بعد والتى كان يمكن لها أن توظفها فى مناقشاتها المتكررة مع أمها فهى تلك التى تتعلق بسلوك الكبار حين يحشرون أنفسهم فى ثياب أقل من أحجامهم وربما أقل من أعمارهم ويتفننون فى إيجاد المبررات والأسباب لهذا السلوك: الثياب الفضفاضة تغرى على ملئها وتشجع على البدانة، الأحذية الواسعة تضع أصحابها فى مواقف محرجة فى المناسبات العامة، الحلى الكبيرة عُرضة للضياع وكم يكلف ضياع الحلى. مع تقدم العمر يصبح كل شىء تقريبا خاضعا لحكم المنطق الذى يعتبر «الصغير أجمل small is beautiful» ولا يُطرح أبدا بديل الأكبر. لم ينمُ بعد لعلم سالى ذلك النوع من ازدواجيات الكبار لكن هذا المقال إهداء لكل سالى ومن هى على شاكلتها لعلها تجد فيه ما يعينها على إقناع الأهل بأن من حقها ارتداء جلبابها وليرتدِ الآخرون جلابيبهم .
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات