إدارة العدالة وحرية التعبير عن الرأي.. أفكار مقارنة - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 5:16 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إدارة العدالة وحرية التعبير عن الرأي.. أفكار مقارنة

نشر فى : الجمعة 3 نوفمبر 2017 - 9:15 م | آخر تحديث : الجمعة 3 نوفمبر 2017 - 9:15 م

بهدف الشفافية والتحديد والتنظيم، تفصل القوانين والأحكام الصادرة عن المحاكم الوطنية فيما تحمله المواد الخاصة في العهود الدولية بإدارة العدالة وحرية التعبير عن الرأي وإشكالية تحقيق التوازن بينهما. فالعهود الدولية، شأنها شأن الوثائق الدستورية التي تقرها أغلبية بلدان العالم، تأتي على النص على ضرورة التمكين للعدالة وصون الحرية. وإذا كانت مهمة المشرع الوطني تعد مباشرة ويسيرة نسبيا عندما يتناول تجريم "المناوئة الجنائية" للمحاكم والهيئات القضائية نظرا لارتباطها بأفعال وأقوال تحدث داخل قاعات المحاكم، فإن هذا المشرع يواجه فلسفيا وقانونيا مهمة شاقة حين يأتي على تحديد معاني ومضامين "المناوئة المدنية" للمحاكم والتي ترتبط بأفعال وأقوال تحدث خارج قاعات المحاكم.

تفصل النظم القضائية المستندة إلى القانون الطبيعي (أو العام) في تحديد أفعال وأقوال المناوئة المدنية للمحاكم. في النظام القضائي البريطاني، يعد مبدأ "عدم جواز تدخل الأفراد في عمل الهيئات القضائية أثناء نظرها للقضايا" مكونا أساسيا في هذا السياق، ويستهدف الحيلولة دون الإخلال بحق الأفراد في محاكمات عادلة وحق القضاة في الحياد والتنزيه عن شبهات الانحياز. في حكم للقاضي البريطاني الشهير "اللورد ديبولك" يعود إلى سبعينيات القرن العشرين، تضمنت حيثيات الحكم شرحا للمصلحة العامة التي يشتمل عليها ذلك المبدأ؛ تلزم الإدارة السليمة للعدالة، أولا، بتمكين جميع المواطنين من الالتجاء إلى المحاكم الجنائية والمدنية المنشأة وفقا للدستور لكي تفصل في المنازعات المرتبطة بحقوقهم وواجباتهم. تلزم إدارة العدالة ثانيا، بتمكين المواطنين من الحصول على معاملة عادلة من قبل الهيئات القضائية لا انحياز بها لأحد أطراف المنازعات محل النظر ووفقا لأدلة تم سوقها على نحو يتسق مع الإجراءات القانونية المنصوص عليها. تلزم إدارة العدالة ثالثا، بحماية المواطنين أطراف المنازعات من تدخل آخرين في عمل الهيئات القضائية أثناء نظر المنازعات، ومن ثم تمكين الهيئات القضائية من العمل في حيدة ووفقا للقانون. هنا تعد الأفعال والأقوال التي تخل بأي من هذه المقتضيات الثلاث أو تتجه إلى الإخلال بالثقة العامة في القضاء مناوئة للمحاكم."[1] وفي القانون البريطاني بشأن "مناوئة المحاكم" (صدر في عام 1981) تعرف الأفعال والأقوال المعنية بكونها أفعال وأقوال "تحدث خطرا جادا على سير العدالة فيما خص القضايا المنظورة، وقد ينتج عنها تعويق العدالة أو انحرافها."

وفي مقام الإشارة إلى أمثلة واضحة للأفعال والأقوال التي تعد في النظام القضائي البريطاني إخلالا بمبدأ "عدم جواز تدخل الأفراد في عمل الهيئات القضائية أثناء نظرها للقضايا"، يرد، من جهة، نشر مواد أو آراء من شأنها منع طرف أو أكثر من أطراف المنازعات المنظورة أمام المحاكم من حضور جلسات التقاضي، ومن ثم الإخلال بحقه الأصيل في الالتجاء إلى القضاء. يرد، من جهة ثانية، نشر مواد أو آراء بشأن القضايا المنظورة أمام المحاكم يستحيل قانونا أن تقوم مقام الأدلة أو قد تسبب تورط الهيئات القضائية في الانحياز لطرف أو أكثر على حساب أطراف أخرى، وتهدد من ثم حيادية القضاء. والمواد والآراء المشار إليها هنا قد ترتبط بنشر أحكام إدانة سابقة لطرف أو أكثر من أطراف المنازعات المنظورة بغرض تشويه السمعة وصناعة الانطباعات السلبية. يرد، من جهة ثالثة، نشر مواد وآراء من شأنها تمرير "الإدانة العلنية" لطرف أو أكثر من أطراف المنازعات المنظورة قبل أن تنتهي المحاكم من الفصل وقبل أن تصدر أحكامها. والأمر الأخير يمثل مخالفة صريحة لفرضية "البراءة حتى تثبت الإدانة"، ويسيء لسمعة وحقوق الأفراد الذين يتعرض لهم على هذا النحو.

***

أما في النظام القضائي الكندي، فإن "مناوئة المحاكم" تتعلق حصريا بأفعال وأقوال تصدر عن أفراد من جموع المواطنين أو من موظفي العموم وعناصر الشرطة المكلفة بتمكين الهيئات القضائية من الاضطلاع بأعمالهم داخل قاعات المحاكم. ولا يدفع باتجاه الأفراد أو موظفي العموم وعناصر الشرطة باتهامات بشأن مناوئة المحاكم، إلا حال التأكد من كون الأفعال والأقوال المنسوبة إليهم قد رتبت تعويق العدالة أو تعطيل عمل المحاكم.

وقد أصدرت المحكمة العليا الكندية العديد من الأحكام والتعليقات التي تتناول جريمة "مناوئة المحاكم" وقصرتها على نحو بين على الأفعال والأقوال التي تصدر داخل قاعات المحاكم ويراد منها تعويق العدالة، ولم تتوسع في تعريفها بهدف حماية حرية التعبير عن الرأي. كذلك تضمن عدد آخر من الأحكام والتعليقات التي أصدرتها المحكمة العليا الكندية إشارات إلى جريمة "مناوئة المحاكم" في معرض تناول أفعال وأقوال إما جاءت من متهمين أو محامين أو مدعين بالحق العام أو موظفي عموم داخل قاعات المحاكم ولم يكن لها من دافع سوى عدم تمكين القضاة من الاضطلاع بأعمالهم أو إشاعة الفوضى أثناء نظر القضايا، أو حدثت "خارج قاعات المحاكم" وارتبطت حصريا "بعدم تنفيذ أحكام أو قرارات أصدرتها المحاكم أو التحايل المثبت عليها مضمونا ومنطوقا." وتراوحت العقوبات الموقعة على من نسبت إليهم تلك الأفعال والأقوال بين غرامات مالية، أو حيدت الغرامات المالية حال حضور عقوبات سالبة للحرية بسبب جرائم أخرى.

***

ثم يقدم النظام القضائي الأمريكي نموذجا إضافيا لتنظيم العلاقة بين إدارة العدالة والحق في التعبير الحر عن الرأي، وصون المصالح العامة ذات الصلة بالنظام الديمقراطي المتمثلة في تمكين الرأي العام من تداول المعلومات والآراء. كذلك يسعى النظام القضائي الأمريكي إلى تمكين الناس من مراقبة عمل السلطات العامة بما فيها السلطة القضائية على نحو يعلي من قيمة الحرية، وينزع المشروعية القانونية عن القيود المفروضة على حرية التعبير عن الرأي ما لم تكن في أضيق الحدود وتكتسب صلة واقعية مباشرة بالمصلحة العامة الأخرى المتمثلة فيما خص السلطة القضائية في عدم تعويق العدالة أو تعطيل عمل المحاكم. وعلى خلاف غيره من نظم قضائية تندرج في إطار التقاليد الأنجلو ساكسونية، يتيح النظام الأمريكي نشر مواد وآراء عن قضايا جنائية أو مدنية منظورة أمام المحاكم، بل وتوسعت خلال السنوات الماضية وسائل الإعلام ومعها فئات الصحفيين والإعلاميين والسياسيين في تناول عمل المحاكم وتفاصيل القضايا المنظورة أمامها بالتعليق والنشر وطرح الرأي والانحياز إلى أطراف بعينها من بين أطراف المنازعات. مثل هذا التوسع، وهو يستند إلى الضمانات الواسعة لحرية التعبير عن الرأي التي ينص عليها الدستور الأمريكي والقوانين المنبثقة عنه، يقره كل من المشرع والقاضي في الولايات المتحدة الأمريكية تغليبا للحق في تداول المعلومات والآراء، وفي رهان على الفعل "العقلاني الرشيد" للمواطن الذي لن ينخدع  بانحيازات الإعلام وفي رهان على "توازن" الهيئات القضائية (من قضاة ومحلفين) التي يفترض احتفاظها بحياديتها بعيدا عن توجهات الرأي العام. هنا ينحاز المشرع الأمريكي بوضوح إلى شرط وجود المجتمع الديمقراطي المتمثل في الحرية وفي مراقبة أداء السلطات العامة.

وتعرف القوانين الأمريكية جريمة "مناوئة المحاكم" باعتبارها فعل من أفعال عدم الامتثال أو عدم احترام السلطة القضائية، أو تدخل في سير عمليات التقاضي. وتعرف مناوئة المحاكم كعمل عدائي ضد هيئة قضائية أو ضد فرد يخول صلاحيات قضائية وفقا لحق السيادة الخاص بالدولة. ثم تحصر القوانين الأمريكية الأفعال والأعمال المشار إليها هنا في:

 1) إساءة التصرف من قبل الأفراد داخل قاعات المحاكم أثناء عملها وبغرض تعطيل إدارة العدالة.

2) إساءة التصرف من قبل عناصر الشرطة المكلفة بحماية الهيئات القضائية وعملها داخل قاعات المحاكم. 3) عدم الامتثال لأحكام أو أوامر الهيئات القضائية أو لإجراءاتها المتعلقة بسير عمليات التقاضي داخل قاعات المحاكم أو خارجها.

الأمر الجوهري، إذن، في تعامل النظم القضائية الأنجلو ساكسونية مع تنظيم العلاقة بين المصلحة العامة المتمثلة في التمكين لإدارة العدالة وصون الثقة الشعبية في السلطة القضائية وبين الحق في التعبير الحر عن الرأي والمصلحة العامة المتمثلة في مناقشة المواطن للقضايا محل الاهتمام الجماعي، هو نزوع هذه النظم القضائية (دستوريا وقانونيا ولجهة أحكام القضاء) إلى اتجاهين رئيسيين. أولهما هو إقرار كون حرية التعبير عن الرأي ذات صلة عضوية بالمصلحتين العامتين المتمثلتين في مناقشة الناس للقضايا محل الاهتمام الجماعي وفي مراقبة عمل وأداء السلطات العامة، وثانيهما هو أن تداول المعلومات يمثل حجر زاوية التنظيم الديمقراطي للمجتمعات المعاصرة.

 

 ورد تعريف اللورد ديبلوك المشار إليه هنا 

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات