كلنا قاتل وكلنا مقتول - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 9:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كلنا قاتل وكلنا مقتول

نشر فى : الأحد 3 ديسمبر 2017 - 9:30 م | آخر تحديث : الأحد 3 ديسمبر 2017 - 9:30 م

الإنسان مخلوق جماعى، يبحث عن الأمان فى عائلته الصغيرة فى الصغر، ثم أسرته أو مجتمعه الأوسع فى الكبر. يحتاج أن يحس بالانتماء إلى مدرسته وجامعته وعمله وبلده ووطنه. وأن يكون مقبولا من أفراد هذا المجتمع، هذا بالتوازى مع كونه فريدا فى صفاته الإنسانية ومواهبه وآرائه. فى كل مراحل عمرنا نبحث عن الصحبة و الطمأنينة وسط ناس يقبلوننا، كما نبحث عن أنفسنا ونحاول أن نجد ما يميزنا عن الآخرين لنضيفه. الإنسان يحتاج إلى «الاستيعاب» (inclusion)، ويعانى كلما أحس بالوحدة بالضبط كما يعانى عندما يفقد تفرده.

لحظات النور والسلام والتطور الحضارى فى تاريخ الإنسانية ارتبطت بشكل كبير بمجتمعات تسمح بهذا التفرد والتنوع والثراء، مناخ توفر لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية جعلت «الاختلاف» مقبولا لا يحرم صاحبه من دفء مجتمعه، ولا يجعله يخشى الإجهار بفكره أو دينه أو عقيدته السياسية أو إبداعه أو ميوله. هذه اللحظات أفرزت لنا عصور النهضة فى تاريخ الإنسانية، منها عصر البطالمة فى الإسكندرية، والأندلس فى العصر الإسلامى فى القرن الرابع عشر الميلادى، وعصر النهضة فى أوروبا فى القرن السادس عشر الميلادى. تميزت هذه الحقبات من تاريخ الإنسان بالسلام، والرخاء الاقتصادى وازدهار فنون العمارة والموسيقى والرسم والنحت، والتقدم العلمى واللغوى. ساهم فيها تنوع بشرى كبير، فهذه الأمكنة والأزمنة جذبت أناسا من العالم كله بلغاتهم وثقافاتهم وشجعت التنوع والتعايش السلمى. وكانت النتائج مبهرة بنت حضارة الإنسان حتى يومنا هذا. كلها سبقتها وتلتها عصور من الظلام انتشرت فيها الحروب والفقر والدم والظلم، وكانت عادة تكرس لفرض سيطرة فصيل قبلى أو أسرة مالكة أو ديانة بعينها أو أيديولوجية سياسية أحادية.

***

إدراكنا نحن الأفراد، نساء ورجال لدورنا فى نشر مثل هذا الفكر الأحادى هام، خاصة فى ظل ما نعانيه من عنف تحت مسمى «إرهاب» أو «نظام عالمى جديد» أو «تطرف من أى نوع». فالفرد نواة المجتمع، من السهل أن يرفع يده ويريح ضميره عما يحدث حوله من ظلم كونه لا حول له ولا قوة، لكن هذا لا يعفينا من تحمل وزر مسئوليتنا فى المشاركة الفاعلة أو الصامتة فى نشر ثقافة «الآخر» غير المرغوب به فى دائرة الاستيعاب المجتمعية.

كلما وسعنا دائرة من نقبلهم بتنوعهم واستطعنا أن نتعامل معهم كأناس وأفراد بعيدا عن تصنيفهم، كلما نشرنا القبول والاستيعاب وأدمجنا المجتمع وجعلناه أكثر ثراء وحبا وسلاما.

ليس هذا بالأمر السهل علينا، فمجتمعنا شديد التصنيف إلى الحد الذى أصبحنا فيه تلقائيا قبل أن نرى فى الإنسان بشاشته أو ذكاءه أو تفانيه أو خفة دمه... إلخ من الصفات الإنسانية، فنحن نراه امرأة أو رجلا، أسود أو أبيض، غنيا أو فقيرا، مسيحيا أو مسلما. هذا التصنيف نعانى منه ونشارك فيه.

كل يوم نرى وظائف فى مؤسسات خاصة وأخرى فى مؤسسات دولة لا تعين المرأة، أو المسيحى، وأخرى لا تعين إلا المرأة فى وظائف معينة أو لا تعين إلا المسيحى، طالبة تأخذ درجة سيئة لأنها منقبة وأخرى لأنها لا تغطى شعرها، أماكن عامة لا يرحب فيها بالمحجبة وأخرى لو دخلتها غير المحجبة تعامل بقلة احترام، أطفال يمنعون من اللعب مع زملائهم لأنهم مسيحيون أو لأنهم من طبقة مختلفة، فتاة ترفض من أهل خطيبها لأنها سمراء أو مطلقة.. إلى آخر الأمثلة اليومية التى نراها ونتقبلها كأمر واقع، وكثيرا ما نشارك فيها حتى ونحن أنفسنا ضحايا تصنيف من نوع آخر.

كل يوم ننطق بعبارات جارحة لآخرين ونحن لا ندرى، ندعو فى الميكروفون لموتى المسلمين ونتجاهل المسيحى الذى يسمع الدعوى، نصف الشخص الشهم بأنه «رجل» و كأن «الجدعنة» ليست صفة المرأة، كما نصف الشخص الضعيف بصفات أنثوية متناسين أننا نهين نصف مجتمعنا، ننتقد من يتحرشون بنسائنا لفظيا أو جسديا فى الشارع ونحن فى بيوتنا وجلساتنا نضحك على نكت ترسخ دونية المرأة. نَصف أخلاق الآخر بأنها أخلاق «خدم» أو صوتهم عال مثل «البرابرة».

والمرأة الواقع عليها تمييز هى نفسها تميز كل يوم فى تعاملاتها مع جارتها على أساس دينها، ومع زميلها فى العمل على خلفية أصوله الريفية، والمسيحى القبطى لا يحبذ أن يلعب أبناؤه مع المسيحيين من ملة أخرى، والمسلم السلفى الذى يشكو من تعرضه هو وزوجته لتفتيش مبالغ فيه عند دخولهم بنك مثلا هو نفسه الذى يتناول شعائر الصوفيين بسخرية واستهجان، والموظف الذى يعانى من تعالى رؤسائه عليه يعامل بواب عمارته بنفس التعالى لأن عنده يقين أنه أقل قيمة.

***

تعليق كل هذا على مناهج تعليم أو إعلام أو تأثير ثقافة عالمية أو ثقافة وافدة علينا من دولة بعينها هو رفع المسئولية عن الفرد الذى هو صاحب فعل التصنيف، وفيه تجاهل لدورنا فى خلق مجتمعات منغلقة على أنفسها لا ثراء فيها ولا رضا.

أصبحنا نعيش فى فقاعات من الأفراد الذين يشبهوننا، اختيارنا هذا سببه تجاربنا السيئة عندما نحتك بمن هم مختلفون، ونربى أبناءنا فى نفس المجتمعات وننسى أننا نحرمهم ثراء المعرفة الإنسانية. ومن أجل استمرار قبولنا من مجتمعنا المغلق نحرص على أن نقول ونفعل ونلبس ما يتناسب معهم، نمارس على أنفسنا رقابة ذاتية فى أفكارنا وإبداعنا سواء فى العمل أو فى ميولنا الثقافية، نخشى أن نكون مختلفين فلا يتم «استيعابنا» فى دائرتنا الصغيرة ولا ندرك أن دوائرنا تزداد ضيقا.

استيعاب من يختلفون عنا لا يتطلب أن نتنازل عن فرديتنا بكل ما نحمل من مبادئ وأفكار وثقافات مختلفة، ويجب أن ندرك أن قبول أفكار وشكل وممارسات الآخرين مهما اختلفت ليست تهديدا لهويتنا، خاصة إذا مورس هذا بشكل إنسانى فى ظل قانون يمنع نشر الكراهية والحض على العنف.

العنف يبدأ بالكراهية، والكراهية تبدأ بالتصنيف، والتصنيف يبدأ بعدم الاختلاط وعدم المعرفة بإنسانية الآخر، وكلها تبدأ بنا، نحن الأفراد فى كل مرة نحرم أنفسنا من التعرف والقرب من كل من هو مختلف عنا.

دائرة الكراهية تغلق على كل من ساهم فيها وبالضرورة ستغلق علينا وعلى أبنائنا، ودائرة الحب والقبول تسع كل من بداخله تسامح كاف لمعرفة الآخر قبل الحكم عليه.

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات