هل الأمومة رحم؟ هل الأبوة شهادة ميلاد؟ - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 11:48 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل الأمومة رحم؟ هل الأبوة شهادة ميلاد؟

نشر فى : الإثنين 3 ديسمبر 2018 - 11:10 م | آخر تحديث : الإثنين 3 ديسمبر 2018 - 11:10 م

أرهقنى البحث عن كلمة تعبر عن فعل العطاء والرعاية الذى تمثله الأمومة والأبوة، هذا الفعل الذى يعبر عنه فى اللغة الإنجليزية بكلمة Parenting. كلمة تجمع بين العطاء والحكمة والرابط الذى لا مثيل له بين «بعض» الأمهات/ الآباء وأبنائهم. وهى تختلف عن Parenthood والذى هو الوضع الاجتماعى الناتج عن الإنجاب فيصبح الشخص «أب» أو «أم» نتيجة لمساهمته البيولوجية فى الإنجاب وعلاقته الجينية بالطفل.
الفارق بين الاثنين يفسر لنا الكثير من الألغاز فى المجتمع. فـ«فعل الأمومة والأبوة» مختلف تماما عن حالة «الأبوة والأمومة»، صحيح أن هورمونات الحمل والرضاعة تعطى المرأة فرصة أكبر للارتباط بالطفل، هى أيضا تضمن للغالبية العظمى من الأطفال أم تحتضن وترعى وتحمى طفلها استكمالا لدائرة الحياة وبقاء النوع البشرى، فتجعل هذه الأم جاهزة لتحمل الضغط العصبى والجسدى الذى يأتى مع رعاية طفل رضيع بكل ما تعنيه هذه الرعاية من تضحيات فى حياتها اليومية والعملية وأولوياتها وجسدها. هذا الجزء مرتبط بكونها حملت هذا الطفل فى رحمها، لكنه تبين أنه جزيئة مهمة لكنها ليست الأكبر ولا الوحيدة فى بناء الرابط ولا فى ضمان أدائها كأم ولا سعادة وصحة طفلها.
الأيام والليالى والشهور والسنوات التالية للولادة تحمل معها لحظات تقارب إنسانى ناتجة عن وضع هذا الطفل أولوية فى الاهتمام والوقت والمجهود والالتزام الكامل لرعايته النفسية والجسدية، ينتج عنها إفراز نفس هورمونات الحب والترابط التى تفرز مع الحمل والرضاعة لدى الأم وبناء نفس الرابط عند الأشخاص المسئولين عن رعاية هذا الطفل، وهى تفرز لدى الطفل أيضا تجاه هؤلاء الأشخاص. وطول مدة هذه الرعاية فى الإنسان وهى ١٨ عاما للطفولة قد يكون دورها فى الرابط أقوى وأمتن من معجزة الحمل والولادة بالرغم من عمق تأثيرها وقد تفسر لنا ارتباط الإنسان بأسرته حتى آخر العمر فى حين أن معظم الكائنات تنتهى علاقتها بأسرها بعد فترة الطفولة وهو أمر لا يحدث بالضرورة فى كل الأسر والعلاقات لأن له شروطا. الإنسان مميز فى هذا الرابط والمتع الناتجة عنه والثمانية عشر أشهر الأولى أهم هذه السنوات لكن السنوات التالية كلها فرص لمد الحبل السرى كاسرا لحواجز الرحم والجينات.
***
فهو رابط لا علاقة له بكونك أبا أو أما، ففى بعض البلدان مثل السويد التى تعطى عاما ونصف العام إجازة لـ«الأسرة» لرعاية الطفل الرضيع مدفوعة الأجر تشترط أن يأخذ الأب منها ٣ أشهر إجازة من عمله وألا تسقط شهور إجازته المدفوعة من حصة الأسرة ككل. هذا جعل المفاهيم تتغير لدى المجتمع والذى كان مثل مجتمعنا يقرن فعل رعاية الطفل بـ«الأنوثة» ويسخر من رؤية أب يتجول بعربة أطفال فى الحديقة أو يدخل حماما عاما ليغير الحفاضة لطفلته أو يلتقطها ليطعمها. مع مرور السنوات بدأت الدراسات الاجتماعية والطبية تبين التأثير الإيجابى الذى أحدثه هذا التقارب على المجتمع والطفل والأب نفسه. لوحظ أن الأطفال اهدأ عندما يتبادل الأمهات والآباء الأدوار التربوية بشكل أفضل لأن الأب أصبح أكثر تفهما لصعوبة الدور الذى كانت الأم تلعبه وحدها، ولأن الأم أصبحت تقتسم المسئولية اليومية فأصبحت أقل توترا وإرهاقا. التأثير الإيجابى على شخصية الرجل بدأ يظهر مع زيادة متعته بفعل الأبوة، فلم تعد الأبوة تعنى مزيدا من الأعباء المادية والتقييد فى الحرية الشخصية لكن أصبح يثمن لحظات تقاربه مع ابنته والتى تفاجئنا فى مواقف لا نتوقعها مثل أن تقع الطفلة وتبكى فتختار أن تجرى علينا لنحتضنها، هذه اللحظة التى كانت حكرا على الأم بحكم أنها «استحقتها» بفعل الأمومة اليومى، أصبح الأب أيضا يستحقها ويستمتع بها. والأمثلة لا نهاية لها عبر سنوات نمو الطفل وأوقات مرضه وإخفاقاته مع أصدقائه وفى دراسته، كلما لجأ لنا الطفل اطمأن قلبنا للرابط، شعرنا بالفخر أنه اختارنا ليلجأ إلينا، واستمتعنا بالحب والحضن العفوى لهذا الكائن الذى لم تلوثه بعد الأيام.
نفس هذا التأثير «لفعل الأمومة والأبوة» لوحظ فى الأسر التى تبنت طفل، أو الأسر التى تقوم فيها الجدة أو الخالة مثلا بدور الأمومة، ففعل الأمومة والأبوة وتأثيره على الرابط مع الطفل كان قويا خاصة بعد أن أصبح المجتمع أكثر قبولا لفكرة التبنى «الكفالة فى المجتمع الإسلامى». لم تعد الأسرة تخفى عن الطفل حقيقة أن له أبوين بيولوجيين آخرين لم يستطيعا لسبب خارج عن إرادتهما رعايته وأن اختلاف جيناته عن أمه وأبوه اللذين ربياه لا علاقة له بحبهما له أو كونهما أسرة بالمعنى العميق، والقوانين حتى فى الدول غير المعنية لأسباب دينية بالنسب أصبحت تضمن للطفل حق معرفة أصله البيولوجى عندما يكبر. ومع تعود المجتمع سقطت الوصمة التى كانت تلاحق الطفل المتبنى وقلت المشكلات، وأصبحت الأسر المحرومة بيولوجيا من الإنجاب مستمتعة بالجوائز الثمينة التى تأتى مع الأبوة، وأصبح الطفل المحروم من أسرته البيولوجية يتربى فى ظروف أسرية أقرب كثيرا من الطبيعة عن تربيته داخل مؤسسة إيوائية.
فإذا نظرنا إلى فعل رعاية الطفل الذى يتطلب حبا غير مشروط والتزاما وإحساسا بالمسئولية وجهدا ووقتا وتفكيرا وأحيانا حيرة تدفعنا إلى مذاكرة أساليب التربية وسؤال من سبقونا فى التجربة، كل هذه الاستثمارات التى تجعل منا آباء وأمهات ناجحين ومستمتعين، غير مرتبطة بكوننا رجالا أو نساء ولا بكوننا حاملين لجينات الطفل أو لا، فليست كل أم بيولوجية تحمل هذه الصفات ولا هى مهتمة أن تتعلمها، هذه الصفات والمهارات نتعلمها وننميها سواء كنا رجالا أو نساء وقد نمارسها مع أبناء أصدقائنا أو إخوتنا وهى فى الآخر تعتمد على رغبتنا فى العطاء وإحساسنا الصادق بالطفل، ومع الوقت يقوى رابطنا مع الطفل وقد يتخطى الحبل السرى فى قوته وامتداده عبر الأيام.
***
«فعل الأمومة والأبوة» لا يأتى بالإنجاب (رأينا أمهات يتركن الطفل لمربية، وآباء تجبرهم الظروف على الحياة فى الغربة بعيدا عن أبنائهم فتنحصر علاقة الاثنين بالأبناء فى تنظيم حياتهم وليس مشاركتهم فيها). هذا الفعل يأتى معه لذات ومتع إنسانية تستحق أن نرفع أصواتنا بإعادة تفكير هذا المجتمع فى وضع الأب وفى فكرة التبنى أو الكفالة الكاملة (مع الالتزام بما يوفره القانون من ضوابط تمنع خلط الأنساب). فمن خلال أبنائنا نرى العالم مرة أخرى بأعين الطفل، أبناؤنا يأخذوننا أماكن ليتنزهوا فنتنزه معهم، نتابع دراستهم فنكتشف أن زمنهم تغير فيه التعليم والعلم، نشاركهم ألعابهم فيطلعونا على عوالم من الألعاب الجديدة، نرتب رحلاتنا لتناسب أعمارهم فنزور أماكن سياحية وتاريخية لم نزرها منذ طفولتنا، نشاهد معهم أفلام ونقرأ كتب تمتعنا لكننا لم نكن لنطلع عليها لولاهم، نكتشف أن زمنهم به تحديات ومصاعب مختلفة عن زمننا فنتعلم. كل هذه اللحظات وأكثر تقربنا منهم لكنها أيضا تقربنا كزوجين، فالأب أو الأم إذا اشتركا فى فعل الرعاية تحولت كثير من الأعباء والواجبات إلى لحظات حميمة، فالمشاركة فى رعاية طفل ورؤيته يكبر أمامنا بلحظات الفرح والانتصار ولحظات الخوف والقلق والحزن إذا ما عشناها معا تعمق العلاقة بين الزوجين بشكل لا تماثله علاقة أخرى، وإذا لم نتشارك فهى تضمن للطفل ملء وعائه العاطفى ودفة تربوية على الأقل من أحد الأبوين.
كل ما سبق من تجارب ثرية ومتع لا يحدث إلا بالنية والجهد الصادق والانغماس فى التفاصيل اليومية لحياة الطفل سواء كنت أما أو أبا، حاملا لجينات الطفل أو لا. التجربة تتطلب أن يكون لدينا اشتياق ورغبة لخوضها وتقدير لقيمتها أبعد من مجرد بناء كيان اجتماعى. الأبوة ليست شرطا لاكتمال السعادة وتحقيق الذات فأبواب السعادة والرضا فى الدنيا كثيرة وتجربة الأبوة أحد أثمنها لكنه ليس الأوحد. مثل كل ما هو ثمين فالحصول عليه ليس سهلا وليس مسلما به لمجرد الإنجاب لكن عمق التجربة وعائدها الإنسانى كبير. فلماذا يحرم منه الرجل؟ ولماذا يحرم منه زوجان يتمناه؟ والأهم: لماذا يحرم منه أطفالنا؟

هنا أبو الغار
أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات