الهدى - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:36 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الهدى

نشر فى : الخميس 4 فبراير 2010 - 9:49 ص | آخر تحديث : الخميس 4 فبراير 2010 - 9:49 ص

تحتفل الكنيسة الإنجيلية هذا العام بمرور مائة عام على صدور مجلتها الهدى (6 يناير1911).. وهى أول مجلة دينية تصدر بالعربية فى الشرق الأوسط، وقد صدرت من مدينة الإسكندرية التى كانت مركزا للثقافة فى ذلك الوقت. وسوف تفاجأ عزيزى القارئ كما فوجئت أنا بمقدمة العدد الأول، والتى سوف أورد لك بعض فقراته لتستطيع أن تدرك البيئة والجو المحيط الذى خرجت فيه هذه المجلة إلى النور، وتتخيل معى مصر منذ مائة عام، ولتسعد بهذا الماضى المتميز وتتمنى أن تستعيده فى المستقبل.

كانت المفاجأة الأولى بالنسبة لى عند استعراض العدد الأول للهدى أن رئيس التحرير بدلا من أن يضع كلمة مقدمة لمقاله الذى يقدم فيه الجريدة وضع كلمة (الفاتحة)، أما المفاجأة الثانية فهى مضمون هذه الفاتحة وأرجو أن تقرأها معى بعناية وتركيز تقول:

«الحمد لله رب الهدى، المانح لعبادة المتقين الحكمة والحجئ المنير، (لا أعرف معنى الحجئ) بوحيه الصادق حنادس الدجى (ولا معنى كلمة حنادس)، الحافظ من أتبع صراطه من الغواية والهوى، المرشد المعتصمين بعروة إنجيله الوثقى، إلى محبته الوسطى، المعلن حقه فى إنجيل طاهر، تنزيل سماوى هو النور الباهر.. هذا ولما كان الإنسان قد ضل عن الهدى، وسار فى سبيل الغواية والهوى، وأطاع الوسواس الخناس الذى يوسوس فى صدور الناس، وابتعد عن ربه الأعلى، فصار مستحقا لنار الله الموقدة، التى تطّلع على الأفئدة، إنها عليه موصدة فى عمد ممددة.. فلم يشأ إله المحبة الحكيم، أن يترك كل البشر واردين على نار الجحيم، ليقاسوا فيها العذاب الأليم، ويقيموا فيها خالدين، جزاء شرهم العظيم، فأنزل كتابه الحق من عنده هدى ونورا ورحمة للعالمين.. ولذا فقد اخترنا كلمة الهدى اسما لمجلتنا بعد استخارة الله لما تحويه من المعانى السامية وتشير إليه من الأغراض الشريفة، فهو اصطلاح الرشاد والدلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المطلوب، وقد جاء عن بعض الأئمة الأعلام أن الله منح الإنسان أربع هدايات توصله إلى سعادته (أولها) هداية الوجدان الطبيعى والإلهام الفطرى وتكون للأطفال منذ ولادتهم فإن الطفل بعدما يولد يشعر بألم الحاجة إلى الغذاء فيصرخ طالبا له بفطرته، (الثانية) هداية الحواس والمشاعر، وهى متممة للهداية الأولى فى الحياة الحيوانية، ويشارك الإنسان فيها الحيوان الأعجم، فإن حواس الحيوان والهامة يكملان له بعد ولادته بقليل، بخلاف الإنسان فإن ذلك يكمل فيه بالتدريج فى زمن غير قصير، (الثالثة) هداية العقل وبه يمتاز الإنسان عن الحيوان لأنه بالعقل يصحح غلط الحواس والمشاعر ويتبين أسبابه، (الرابعة) هداية الدين فإن العقل يغلط فى إدراكه كما تغلط الحواس.. وقد يهمل الإنسان استخدام حواسه وعقله فى ما فيه سعادته الشخصية والنوعية، ويسلك بهذه الهدايات مسالك الضلال فيجعلها مسخرة لشهواته ولذاته حتى تورده موارد الهلكة. فكيف يتسنى للإنسان مع ذلك أن يعيش سعيدا وهذه الأهواء ليس لها حد يقف الإنسان عنده، ولا تغنى عنه تلك الهدايات شيئا فاحتاج إلى هداية ترشده فى ظلمات أهوائه إذا غلبت على عقله، وتبين له حدود أعماله ليقف عندها ويكف يده عما ورائها، فهل يستطيع أن يصل بتلك الهدايات إلى تحديد ما يجب عليه لصاحب تلك السلطة الذى خلقه وسواه ووهبه هذه الهدايات وغيرها وما فيه سعادته فى تلك الحياة الثانية، كلا إنه فى أشد الحاجة إلى هذه الهداية الرابعة وهى ــ الدين ــ وقد منحه الله تعالى إياها من منّه وكرمه».

فمما تقدم يتضح لنا أن الرأى متفق على أن الهدى هو هدى الله، وأنه يأتى من الله رأسا إذ لا يستطيع المخلوق من ملاك أو نبى أو رسول أن يهدى أحدا لأن الله قد حفظ لنفسه هذا العمل العظيم.. وقد أيدت الكتب المقدسة هذه الحقيقة الناصعة فوردت فيها كلمة هدى ومشتقاتها أكثر من أربعين مرة وأغلبها يؤيد قولنا هذا، ونظرة بسيطة إلى حالة العالم وقت مجىء المسيح كافية لأن تجعلنا ندرك أنه كان فى أشد الحاجة وقتئذ إلى هدى سماوى، كما هو اليوم أيضا، لأن ظلمة التقاليد اليهودية كانت قد سترت الحق عن الأعين، فأمست الديانة طقسا دون حياة.. ومع أنها كانت خالية من شوائب الوثنية فإنها قد خلت أيضا من روح التقوى والحياة الروحية التى تعمل على مبدأ الإنسانية العامة...فما كان أحوج العالم من يهود ووثنيين إلى ظهور شخص قادر أن يهديهم إلى النور الحقيقى ويسدد أقدامهم فى سبيل السلام، فجاء المسيح طاهرا لا عيب فيه وولد بكيفية خاصة به لم يسبقه إليها نبى ولن يناظره فيها مولود امرأة، وعاش عيشة لم يكن عليها غبار ولا مسته فيها خطية ولا أصابه وزر من مهده إلى لحده إلى أن رفعه الله إليه حيا. وبرهن للعالم على صدقه لا بفصاحة اللسان ولا بقوة البرهان، بل بشرف المبادئ العملية التى صار بموجبها فغير بها صفحات تاريخ الكون تغييرا محسوسا، وليس معجزة المعجزات أن المسيح يترك وراءه نفرا من فقراء عصره لا حول لهم ولا طول فلم يمض على عملهم جيل أو جيلان يحيط بهم السيف والنار وتهددهم المذابح المخيفة والاضطهادات المريعة وتحاربهم القوة الرومانية الباطشة.. ولكن مع كل ذلك فقد تغلبت مبادئ سيدهم على كل المبادئ الفلسفية والدولية. هذا وإن كنا نعترف بالأسف أنه جاء زمن على المسيحية انطمست فيه معالم الحقيقة واشترى الناس الضلالة بالهدى فإن جرثومة الحياة الكامنة فى تعاليم المسيح لم يهدأ لها حال، بل عملت بقوة إلى أن انفجرت الحياة ظاهرة فى إصلاح العالم دينيا وعلميا.. ولما كان قصدنا فى إصدار هذه المجلة تبيين الهدى الحقيقى الآتى من عند الله فى المسيح المرسل هدى للعالم فإننا سنجعل جل أبحاثنا قاصرة على وصف كمال هذا الهدى وتأثيره فى النفوس بكيفيته الهادئة وطرقه السلمية والله يهدى قلوب جميعنا إلى محبة الله والمسيح.

***

عزيزى القارئ لعلك لاحظت معى عدة ملاحظات فى هذه المقدمة..

أولها: استخدام لغة إسلامية (بتعبير عصرنا) حيث لم يكن فى الحقيقة ما يسمى لغة إسلامية أو أخرى مسيحية فى ذلك الزمان. وهذه اللغة هى التى تعلمها المسيحيون عندما عربت الدواوين فى القرن الحادى عشر وكانت جميع المراسلات تتم بهذه اللغة وكانت تستخدم فى المقالات والكتب.. إلخ. فى نفس الوقت الذى كانت فيه لغة عامية يمكن أن تتعرف عليها من الأفلام القديمة فى الثلاثينيات والأربعينيات، فقد كانت التحية المتداولة بين الجميع نهارك سعيد وسعيدة، والعواف فى الريف، والسلام عليكم وكل هذه كانت تستخدم دون أى حساسية ويقولها الجميع فلم تكن السلام عليكم إسلامية ولم يكن نهارك سعيدا مسيحية، بل كانت هناك لغة واحدة لكل المصريين.

أما الملاحظة الثانية: فهى اللغة العربية الرصينة والتى توضح إلى أى مدى كان المسيحيون يتفقهون فى اللغة العربية وفى كلماتها الصعبة ــ أو ما نسميها اليوم «المقعرة» ــ ولم تكن لديهم أى حساسية فى استخدام لغة عربية فصحى على أساس أن هذه اللغة هى لغة القرآن أو لغة الإسلام.. بل إن هناك مسيحيين تفوقوا فى اللغة العربية وفى استخداماتها عن المسلمين، وكان من الطبيعى فى ذلك الوقت أن تجد مسيحيين قد تخرجوا فى كلية اللغة العربية بالأزهر ولم يكن يمثل هذا أى حساسية أيضا.

أما الملاحظة الأخيرة: فهى الاقتباس من القرآن أى من آيات القرآن، وكلنا يعلم أن هذه المجلة موجهة إلى المسيحيين، بل إلى الإنجيليين الذين لم يتعد عددهم فى ذلك الوقت بضعة آلاف.. وكان القارئ يستقبل ويقرأ هذه الآيات دون أى حساسية ويستخدمها فى حديثة اليومى بل ويكرر الألفاظ القرآنية حتى يدرب مخارج الألفاظ لديه لتكون صحيحة ويستمتع بالموسيقى الداخلية فى الكلمات.

***

عزيزى القارئ لم أكن أنوى إطلاقا أن أكتب عن مجلة مسيحية كنسية خاصة فى جريدة عامة كـ«الشروق»، لكن بعد حادث نجع حمادى وما قبله من حوادث وضح فيها مدى الاحتقان الذى نعيش فيه وكم الانعزال الذى تبنته الكنيسة حيث أصبحت لها لغة عربية خاصة بها ورؤية سياسية عامة.. فى الوقت الذى تبنت الجماعات المتأسلمة لغة خاصة أيضا.

وهكذا ترى عندما يبدأ مسيحى أو مسلم غير متطرف مسلما متطرفا بالقول (صباح الخير أو نهارك سعيد أو الو).. تأتى الإجابة متجهمة (عليكم السلام ورحمة الله وبركاته).. وهكذا اتسع الفارق والفرز فى وسط شعب واحد، بل لقد أصبحت الأسماء المسيحية هى بشوى وشنودة وأندرو وبيتر.. الخ، والإسلامية أحمد ومحمود وعثمان.. الخ، ونسينا الأسماء العربية المصرية طلعت وفوزى ومنى وهدى.. الخ. لقد أصبح المسلمون يتحدثون عن أن وطنهم الإسلام ودستورهم القرآن وزعيمهم الرسول، وأصبح المسيحيون يتحدثون عن أن وطنهم السماء ودستورهم الإنجيل وزعيمهم المسيح، ولاشك أننا تأخرنا كثيرا فى العلاج.. لذلك نحتاج إلى حلول غير تقليدية لنستعيد روعة الشعب الواحد وجمال الوطن الواحد وعبادة الإله الواحد بحق.  

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات