هيكل بلا حواجز - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:22 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هيكل بلا حواجز

نشر فى : الإثنين 4 مايو 2015 - 9:30 ص | آخر تحديث : الإثنين 4 مايو 2015 - 9:30 ص

لم يكن أقرب الصحفيين إلى رجل يوليو القوى «جمال عبدالناصر».

تعارفا على خطوط النار، مقاتل يحارب وصحفى يغطى حرب فلسطين، غير أن العلاقة لم تأخذ مدارها الحقيقى إلا فى مارس (١٩٥٣) حيث صاغ رؤية القائد الشاب لأفق التغيير على صفحات مجلة «آخر ساعة» التى يترأس تحريرها.

كانت هذه «فلسفة الثورة» أول وثائق يوليو.

عند هذه اللحظة الفارقة فى تجربته الطويلة فرض حول نفسه حواجز منيعة، بتعبيره هو «ستائر كثيفة»، لا ينقل لأحد آخر حرفا واحدا مما يدور مع «عبدالناصر» من حوارات مسهبة فى السياسات العليا تستند على صميم المعلومات.

«‬هل تعرف ما هو الكتاب الذى أشعر بالفخر أننى كتبته؟».

أجاب بنفسه: «لمصر لا لعبدالناصر».

علاقته بـ«عبدالناصر» موضوع سجال طويل عن المثقف والسلطة.

كان من رأى المفكر الفلسطينى الراحل إدوارد سعيد «أن المثقف يكف عن أن يكون مثقفا إذا اقترب من السلطة».

سألته: «حتى أندريه مالرو أبرز المثقفين الفرنسيين الذين قاوموا الاحتلال النازى قبل أن يعمل بعد التحرير وزيرا للثقافة بجوار الجنرال شارل ديجول؟».. قال: «حتى أندريه مالرو».

سألته مرة أخرى: «الأمر ينصرف بنفس المنطق إلى صديقك المقرب هيكل».. أجاب:«نعم».

لم يكن الأستاذ «محمد حسنين هيكل» مقتنعا بهذه القطعية فى تعريف العلاقة بين المثقف والسلطة، فـ«مالرو صديق ديجول قبل السلطة ولا يعقل أن يقطع علاقته به ما إن وصل إليها حتى يحتفظ بصفة المثقف وقد خدم الثقافة الفرنسية كما لم يخدمها أحد آخر، كما أن علاقتي بعبدالناصر مسألة أفكار ورؤى وأحلام أمة فى لحظة تحديات كبرى وتحولات عاصفة وواجبي الوطني قبل أى شىء آخر حتم أن أساعد بقدر ما استطيع».

فى حوار بين الرجلين على مائدة إفطار فى منزل «هيكل» على نيل الجيزة أبدى «سعيد» تفهما لتعقيدات التعريف ومزالق التعسف فيه.

فى أية تجربة إنسانية فإن اختبار الزمن يكشف وينير.. كيف تكون المواقف وأين تتبدى الخيارات؟

كان الاختبار الأول فى حقبة «أنور السادات»، ناصره فى البداية قبل أن تتباعد الطرق، ولم تكن المسألة شخصية.

غادر «الأهرام» التى جعل منها واحدة من أهم عشر صحف فى العالم: «إذا بقيت كنت سوف أخسر نفسى بالدفاع عن سياسة لا أقتنع بها».

قال للسيدة زوجته بعد لقاء عاصف فى بيت الرئيس على مشهد من أصدقاء مشتركين:«تأكدى أن الموقف الأخلاقى سوف ينتصر فى النهاية».

فى هذا اللقاء العائلى تحدث «السادات» لأول مرة عن رهانه الكامل على الولايات المتحدة وأنها تملك (٩٩٪) من أوراق اللعبة.

بقدر ما كان دوره مؤثرا فى صياغة مشروع «عبدالناصر» فإن نقده للإدارة السياسية لحرب أكتوبر لعب دورا جوهريا فى لفت الانتباه العام إلى مخاطر خيارات «السادات» وأثرها الفادح على تهميش الدور المصرى فى محيطه وعالمه.

بابتعاده عن السلطة سقطت الحواجز كلها وتأكد ما كان يعتقد فيه أن الصحفى أقوى من السياسى.

تصور«السادات» أن خروجه من «الأهرام» حكم بالإعدام المهنى على صديقه السابق.

عندما حاور«هيكل» «آية الله الخمينى» فى باريس عشية الثورة الإيرانية سأل «السادات» صديقهما المشترك «سيد مرعى» صهر الرئيس ورئيس مجلس الشعب الأسبق: «بأية صفة؟».

كانت إجابته:«قل له بصفتى صحفيا».

نصحه «مرعى» وهما بملابس البحر على شاطئ «المنتزه» بعيدا عن أية آذان تسمع: «خد بالك يا محمد.. لن يتركك».

ولم يكن غريبا أن يدخل سجونه فى اعتقالات سبتمبر الشهيرة التى سبقت مباشرة حادثة المنصة.

لا هو رجل كل العصور ولا هو صديق كل الرؤساء على ما تقول الحملات الممنهجة عليه.

عارض علنا «مشروع التوريث» من فوق منصة الجامعة الأمريكية بالقاهرة فى خريف (٢٠٠٢) حيث لم يكن أحدا باستثناء مجموعة من الصحفيين الشبان فى جريدة «العربى» مستعدا للاقتراب من الملف أو الحديث فيه.

واصل مناهضته لحكم «مبارك» بلا تردد أو انقطاع وتعرض لحملات تشهير عرض خلالها خدماته كل من يطلب قربا من السلطة.

ورغم أية ادعاءات عن مهادنته لحكم الإخوان فإنه هو من كتب بيان (٣) يوليو الذى عزل الرئيس الأسبق«محمد مرسى» وتعرضت حياته للخطر من جراء موقفه حين استهدف منزله الريفى فى«برقاش» للحرق.

كصحفى فهو مستعد أن يلتقى جميع اللاعبين السياسيين«باستثناء الإسرائيليين».

من طبيعة المهنة استقصاء المعلومات من مصادرها قبل وضعها فى سياق وتحليل ورؤية.

راهن على اللواء «عبدالفتاح السيسى» مبكرا وعلاقتهما الإنسانية عميقة بأكثر من أى توقع دون أن يحول ذلك من أن يبدى انزعاجه من تنحية السياسة وتغييب الرؤى.

فى رحلة مهنية وسياسية امتدت لأكثر من سبعة عقود فإنه من الطبيعى أن تتناقض القراءات والمواقف غير أن هذا شىء والتشويه المتعمد شىء آخر تماما.

لا يمكن قراءة التاريخ المصرى المعاصر بدون توقف جدى أمام أدواره وإسهاماته.

هو مفكر استراتيجى وأطروحاته فى الأمن القومى مدرسة كاملة يتعلم عليها العسكريون والدبلوماسيون المصريون.

وهو مهنى من طراز فريد وصفته «الواشنطن بوست» عند نهاية القرن العشرين أنه «أفضل صحفى فى العالم خلال هذا القرن» واهتزت مديرة التدريب فى وكالة «رويترز» وهى تقدمه لإلقاء محاضرة فى جامعة «أكسفورد» قبل سنوات «أكاد لا أصدق أننى أقف أمام الأسطورة الحية».

لا يولد شىء من فراغ ولا قيمة تتأسس على إدعاء.

سأل ذات مرة: «ما العبقرية؟».

لم يكن يتحدث عن نفسه لكن إجابته بذاتها موحية معتمدا على تعريف مفكر هولندى معاصر.

«‬الاتقان فى التقنية وشىء ما آخر».

التقنية المتقنة من ضرورات أية مهنة لكنها وحدها محض «صنعة» لا إبداع فيها.

شىء ما آخر يضفى على المواهب استثنائيتها.

عبقريته فى أسلوب عمله ونظام حياته.

كل شىء يخضع لنظام دقيق، لكل دقيقة أهميتها ولكل ورقة أرشيفها، قضيته الخبر «لا قيمة لأى تحليل سياسى ما لم يستند إلى معلومات مدققة».

بعض الذين حاولوا أن ينالوا منه كرروا فيما يشبه المحفوظات أن العالم تغير وأنه فقد مصادر معلوماته.

وكان ذلك افتراء على الحقيقة.

عندما جاء الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» إلى القاهرة وألقى محاضرة فى جامعتها وقف تقريبا وحده ضد الهوس الإعلامى والسياسى الذى صاحب هذه الزيارة.

لم يشر بأى حرف إلى اللقاء الذى جمعه على انفراد فى«جامعة شيكاغو» لنصف الساعة مع «أوباما» قبل إعلان تنصيبه مرشحا رئاسيا باسم الحزب الديمقراطى.

رغم الحملة عليه لم يكن مستريحا للكشف عن هذا اللقاء «لا أريد أن أختفى وراء أى شىء».

هذا مجرد مثال لمئات اللقاءات على هذا المستوى لم يعلن أبدا عنها.

لم يكن يريد إثارة حساسية أحد فى السلطة وقد كانت الحساسية تجاهه بالغة طوال سنوات «مبارك».

يدرك حقائق الحياة وعدد السنين«أنا لا أخفى مرضى ولا سنى».

ذات مرة قال: «ربما أكون قد تلكأت على المسرح».

وكانت العبارة قاسية من رجل وهبه الله الهمة والعافية إلى التسعين من عمره.

لا توجد أمة تحترم نفسها تسأل مواهبها الاستثنائية عندما يتقدم بها العمر أن تصمت وهى تستطيع أن تتكلم، فـ«إذا لم أتكلم أنا فمن يتكلم» حسب بيت شعر شهير للمسرحى البريطانى الأعظم «وليم شكسبير».

أدعو الله أن يحفظ لهذا البلد أسطورته الحية، أن يقف على قدميه من جديد بعد العملية الجراحية التى أجراها فى لندن، يمشى حيث شاء ويتحدث فيما يريد، يعلم ويلهم الأجيال الجديدة.