حكاية فخرانى.. النجاة بالحكاية! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حكاية فخرانى.. النجاة بالحكاية!

نشر فى : الجمعة 4 مايو 2018 - 9:50 م | آخر تحديث : الجمعة 4 مايو 2018 - 9:50 م

أعترف أننى تأخرت كثيرًا فى نشر مقالى عن الرواية المهمة «حكاية فخرانى» (صادرة عن دار الشروق) للكاتب المدهش المتمكن محمد موافى، وهى الرواية التى فاجأتنى بشدة عندما قرأتها فى صورتها الأولى المخطوطة؛ ورغم أننى تقريبًا كتبت هذا المقال عقب فراغى من القراءة الثانية لأول نسخة صدرت من الرواية فى أغسطس 2017!!

نعم تأخرت كثيرًا فى نشر المقال لأن هذه الرواية يجب أن تُقرأ على مهل شديد جدًا، لاعتبارات اللغة المكتوبة بها، والعالم الذى أراد المؤلف تصويره، والأفكار التى أراد أن يجسدها من خلال تجربته التخييلية المبتكرة. ومن الأسطر الأولى، نحن بإزاء كاتبٍ يحقق قدرًا كبيرا جدًا من السلاسة والسلامة اللغوية لنصه الروائى، بل يؤكد على وعيه اللغوى السليم ودقته وإدراكه المرهف لخطورة تركيب الجملة وضرورة ضبطها والحرص الشديد على ضبط ما يستلزم الضبط فيها (من تنوين وإعراب وتشديد.. إلخ)، وهذه الملاحظة (بالنسبة لى) ضمنت منذ البداية لقارئ هذه الرواية «الثقة» فى أن ما يُقدم له على المستوى اللغوى المطلوب، ومن ثم يشرع فى القراءة ويستمر فيها وهو على قدر من الثقة والطمأنينة.

فى 196 صفحة من القطع المتوسط، وبِكمٍ لا بأس به من الاستشهادات والاستدعاءات النصية القديمة، تقع هذه الرواية التى أطلق عليها مؤلفها اسم «حكاية فخرانى» (وبعنوان فرعى مثير للفضول «سمَاع المعلم لروح يتكلم»)، وهى صيغة منحوتة من «الفخّار»، و«الفخرانى» هو المشتغل بصناعة الفخّار.

تتتبع وقائعُ الرواية سيرة آل المهدى، ومؤسسها الجد الأكبر، يبحث حفيده «زين العابدين» عن كنز مجهول، ويقع بين يديه مخطوط عجيب، فيخوض رحلة مثيرة فى أغوار نفسه لتدوين سيرةِ الجد الأكبر المعلم المهدى الفخرانى، منذ خروجه من أسيوط فى زمان غابر، حكاية صعيدى ليس له فى السياسة غير قناعته بأن (الذى بنى مصر فى الأصل فخرانى)! يقول الراوى: «حدثنى (زين) عن جده الأكبر؛ الأول من آل المهدى، فتجمعت لدى ثلاثُ رحلاتٍ فيها من الخيال الكثير، وبها من المُحال أيضًا، كما فيها مما قد تصدقه بعض العقول».. كل ذلك دون أن يتنازل الراوى عن شطر سرده الناعم الذى يفيض روحانية وتحليقًا، بين أزمنة متباينة وارتحالات بين الأمكنة.
«سماع المعلم لروحٍ يتكلم»

عنوان المخطوط المدهش الذى يعثر عليه حفيد المهدى، هو «سماع المعلم لروح يتكلم»، عنه يقول: «سنحت الفرصةُ لى ولمن أوقفنى على بواباتِ الرواية، وهو حفيدُ صاحبِ حكاية، أن نقرأ سويا المخطوطَ دقيقَ الخطِ بديعَ النقشِ، المُجلّد فى ثلاث كراريس، قبل أن يُهديه وارثُه بنفسه لأمين المجمع العلمى بالقاهرة. سعدنا بكثيرٍ مما جاء فيه، وفيه ما لا يُصدقه عاقلٌ، وما سوف يلعنُ أساسَه كلُ كافر بالفلك وحساباته، وكيف لا يرفض قارئ ما جاء فيه!».

ويطلع الراوى على «المخطوط دقيق الخط بديع النقش»، ليخوض رحلة عجيبة فيها بحث عن المآلات والأحوال، تقلبات الروح وتوترات الجسد، سيُجابه القارئ بحضور فريد ومواجهة مدهشة مع الشيخ الأكبر، محيى الدين بن عربى، شيخ الطريقة، وصاحب الخيال الخلاق، وحامل أختام الولاية، سيُفاجأ القارئ ببعض من سيرته وفصول منتقاة من فتوحاته (هل نقول المتخيلة؟!) وارتحالاته بين الأمكنة، بكامل حمولاته الإنسانية والروحانية، وتجليات تجربته الصوفية، وفيوضات فتوحاته المكية، تقوده فى كل ذلك لغة فريدة ناعمة تتوسل جماليات الإرث الصوفى، بكل تركيبه وتكثيفه ورمزيته، وتستلهم روح المواجد والمكابدات العنيفة، وهكذا من حكاية تتوالد حكايات، ومن مخطوط تتناسل سيرة داخل سيرة.

إن «حكاية فخرانى» ــ وكما رصد بذكاء وحساسية محمود عبدالشكورــ روايةٌ تنفذ إلى جوهر التصوف بفهم وبوعى، فينعكس ذلك على لغتها السردية التى تُحمّل العبارات معانى إضافية، كما أنها رسالة احتجاج فنية ضد التعصب والجهل والتطرف والتحايل على جوهر الدين بالاستغراق فى قشور وتفاهات يظنها الجهّال دينًا!

توجه الرواية رسائلها الإنسانية والروحية الراقية بحنكة ورواء ولغة بديعة: «قبل اتهام جاهلٍ، وقبل دعوى قضائية يُدمنها أفّاقٌ باسم الغيرة على الدين: فإن الإيمان لا يُحسب بطول المواظبة على العبادات أو ترديد التسبيحات، أحيانا تكمن صلابة إيمانك فى عدد مرّات شكك. سقوطنا يؤسس لقيام يتسم بالخبرة ويبنى اليقين. وضد اليقين أن يكون المتسلحون بالإيمان غاضبين حاقدين، متشدقين كارهين، مُنفرين ومكفرين، وقتها لا تستحل دمَ من يتشكك فى خطابك..

يا حضرة المتدين الحاقد، لا تلومن إلا نفسك. لشدّ ما تتقزم القامات وتضيق العقول وتصغر، طالما انشغلت بالآخرين، مفتشة فى قلوبهم عن الإيمان والكفر. العقول الكبيرة بحورٌ كبيرة تهتم بنفسها ولا تحقد على فروع أنهار تصطدم بها. لو انشغلت بقلبك، لما شغلتك عقائدُ مخفيةٌ فى صدور الناس. «أيها الناس، إن منكم منفرين».. الابتسامة أجر، والغضب أبو الشر. فطوبى لمن يلتمس العذر، ويجبر الكسر، ذلك الذى لا يُعرقله ارتباك، ولا يستخفه غرور».

إن «حكاية فخرانى» لمحمد موافى، رواية تستجلى أسرار الضعف الإنسانى فى رحاب المجرة الكونية العظمى، مكتوبة بِنفس محموم ومجاهدة فنية عالية، تسكن قلب قارئها وتطوف بعقله أشباحُ التاريخ وخيالات الجغرافيا وسحائب روحانية صافية.. وتومئ لمن يفهم لغة الإشارة ويلتقط جوهر العبارة بأن الإنسان عدو ما يجهل، وأول ما يجهله الإنسان هو الإنسان؛ ولهذا فـ («اعرفْ نفسك».. هى التى تقودك إلى «اروِ حكايتك» تكنْ من الناجين)..
فاللهم اجعلنا من الناجين..