«التولة» العميقة - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 12:29 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«التولة» العميقة

نشر فى : السبت 4 يوليه 2015 - 11:20 ص | آخر تحديث : السبت 4 يوليه 2015 - 11:20 ص

انتشر فى السنوات الخمس الماضية أى منذ قيام ثورة 25 يناير مصطلح الدولة العميقة، وواضح من الاسم أنها الدولة غير الظاهرة للعيان على سطح الأحداث لكنها تؤثر فى تلك الأحداث بشدة وذلك بإطلاق إشارات واضحة من مكان عميق وخفى أشبه بالغواصات البحرية.

ولا يستطيع أحد من الدولة الظاهرة الرسمية المنضبطة الحاكمة أن يعرف مصدر هذه الإشارات فالدولة الرسمية الظاهرة للعيان تتحدث عن أهمية المشاريع القومية الضخمة ومحاربة الفساد والإرهاب والتراخى فى العمل... إلخ، وكيف أن مشاريعها سوف تحقق إنجازات على الأرض. وهذه الإنجازات ستكون بالتأكيد فى صالح الدولة العميقة لأنها ببساطة تتكون من الغالبية العظمى للشعب المصرى المنتشر فى البلاد من أقصاها إلى أقصاها فمنهم معظم موظفى الدولة فى كل القطاعات ومعظم ضباط الشرطة والجيش وكل العساكر ومعظم نساء مصر العاملات وغير العاملات.

***

وما يميز هذه الدولة العميقة أنه ليس لها رئيس أو حكومة وليس لها جيش منفصل عن الجيش الوطنى الظاهر للعيان وكذلك الشرطة أو الجامعات، ذلك ولأنهم منتشرون فى كل هذه القطاعات فهم يمثلون الأكثرية، والقضية هنا أنهم العامل الفاعل والأساسى فى إنجاح الدولة الظاهرة أو فشلها فشلا ذريعا بل وإسقاطها. وهم لا يأخذون قرارا جماعيا بإنجاح الدولة الظاهرة أو إسقاطها لكنهم يتحركون بروح واحدة كل فى مكانه بداية من ربة المنزل إلى طلبة الجامعة مرورا بالموظفين والعمال... الخ، دون اتفاق لكنهم يجدون أنفسهم تلقائيا فى اتجاه واحد وهم لا يعرفون بعضهم بعضا. فكم أسقطوا من مشروعات عظيمة لم تعجبهم لسبب أو آخر وهذا ما حدث مع مشروعين قوميين مهمين ونافعين حتى بالنسبة لهم هما محو الأمية وتنظيم الاسرة بدءا بعبدالناصر حتى اليوم مرورا بالسادات ومبارك ومرسى وعدلى منصور ولم يستطع واحد من هؤلاء الرؤساء إقناعهم بالمشروعين.

هذه الدولة العميقة هى التى أسقطت عبدالناصر فى حرب 1967 فالدولة الظاهرة كانت واثقة من النصر فالرئيس يثق فى قائد الجيش وقائد الجيش يثق فى قياداته، لكن الدولة العميقة كانت قد أدركت هزيمة الجيش فى اليمن وكانت تشاهد العروض العسكرية للدولة الظاهرة وتطلق النكات عليها وكانت تسخر من القمع الشديد للمعارضة، وأصبح شعار عبدالناصر لا صوت يعلو فوق صوت المعركة مدعاة للفكاهة فى كل بيت مع كل زوجة وأولاد وفى كل مدرسة.

وبعد الهزيمة التى أسمتها الدولة الظاهرة «نكسة» كان رد فعل الدولة العميقة انه اسم الدلع للمحروسة «هزيمة».

ومات عبدالناصر وجاء السادات وفى حرب 1973 تماهت الدولة العميقة مع الدولة الظاهرة لكن مع محادثات فك الاشتباك مع إسرائيل عند الكيلو 101 بدأ فك الاشتباك بين الدولة العميقة والدولة الظاهرة وحدثت الوقيعة بينهما مع اتفاقية السلام كامب دافيد حيث أفرغتها الدولة العميقة من مضمونها.

***

ولا تظن ــ عزيزى القارئ ــ ان انتصارات الدولة العميقة جاءت نتيجة تنظيم أو تخطيط لكنها جاء نتيجة عدم حماس ورفض وتراخى فمعظم ما رفضته كان مفيدا لها ولمستقبلها وغالبا كان رفضها عاطفيا وليس مبنيا على تفكير علمى أو موضوعى وكانت قيادات الدولة الظاهرة غير قادرة على توضيح وجهة نظرها فتقول إن الشعب غير فاهم وباللغة الشعبية «متوول»، والشخص المتوول هو الشخص الذى يحكم عاطفته اكثر من عقله فعندما لا يستريح لقرار أتى من جهة أعلى ينسحب داخليا ويهمل فى العمل الذى يقوم به ويصبح سلبيا وغير قادر على التمييز.

***

فى 25 يناير أيدت الدولة العميقة الإخوان بدعوة تجريبهم وهذه «تولة» فى الفكر ومن خلالهم وصل مرسى للحكم. وسرعان ما اكتشفت الدولة العميقة خطأها وبدأت فى إسقاطه بطريقتها أيضا والتى تتضح من خلال العمل بدون حماس والتراخى والسلبية، فوقعت أزمة البنزين وانقطاع الكهرباء وفوضى الشوارع. وكان كل هذا يتم بطريقة تلقائية ومما ساعد على ذلك ان مرسى نفسه كان «متوولا» لأنه عاش فى الظل طويلا ولم يتدرب كيف يحكم، فهو ومن معه من خريجى «التولة العميقة» إلى الدولة الظاهرة. وبسبب «تولتهم» سقطوا سريعا.

وهنا أيدت الدولة العميقة الجيش والسيسى وخرجوا بالملايين فى لحظة تاريخية غير مسبوقة فيها التحمت الدولة العميقة مع الدولة الظاهرة وهى من اعظم اللحظات فى تاريخ الأمة. لكن مع الوقت اكتشفت الدولة العميقة أن ليس كل من يحيطون بالسيسى يشبهونه فقمع الشرطة بدأ يعود، وقتل الضابط شيماء، وتحول شهود الواقعة إلى متهمين، وقبضوا على شباب لسبب أو آخر وأودعوا السجون لفترات طويلة دون تحقيق، وظهر رموز حكم مبارك بعد حصولهم على البراءة وكأن الثورة لم تقم بعد، وبدأ الحديث عن ضغوط خارجية للمصالحة مع الإخوان، وتم حماية إعلاميين لأنهم يؤيدون النظام، وبدأت المزايدة على التيار الدينى بانتقاد الفن والمسلسلات بادعاء أنها أشياء إباحية وكأن الشعب المصرى مازال طفلا يحتاج لوصى يعلمه ما الذى يشاهده من عدمه، وازدادت قضايا ازدراء الأديان وهو الطريق الأسهل والأكثر فاعلية لقمع حرية الرأى، فى ذات الوقت لم تعلن نتائج التحقيقات فى قضايا عدة مثل قضية محاولة اغتيال وزير الداخلية السابق.

كل هذا وبطريقة غير مباشرة وبدون وعى كان يفكر فيه القائمون على حراسة النائب العام هشام بركات ففقدوا تركيزهم وبدوا وكأنهم لا يهتمون بتغيير طريق السير وهم انفسهم سقطوا ضحايا الحادث.

***

أليس هذا التصرف هو «التولة» بعينها بل إن قادتهم على أعلى مستوى لم يفكوا شفرة إشارات المهاجمين بإذاعة فيديو مصرع وكلاء النيابة فى سيناء وتوقع المحللون بأن هناك عمليات إرهابية سوف تقع بمصر بتركيز شديد فى الفترة بين 30 يونيو حتى 8 أغسطس موعد افتتاح قناة السويس، ثم يأتى المحللون السياسيون والخبراء الاستراتيجيون والفقهاء القانونيون التابعون للدولة الظاهرة ويتحدثون عن أن العملية الإرهابية كانت على اعلى مستوى من التقنية والتدريب والاتقان التكنولوجى وأنه بالمقارنة بين حادث وزير الداخلية السابق وحادث اغتيال النائب العام اكتشفوا أن إنقاذ وزير الداخلية لم يكن بسبب حراسته أو ذكاء البعض لكن كان بسبب أن الإرهابى الذى ضغط على زر الريموت للتفجير تأخر لثوان قليلة فانفجرت سيارة المتفجرات بعد مرور سيارة الوزير بلحظات، أما إرهابى الحادث الأخير فكان أكثر مهارة وأكثر إتقانا فى تنفيذ مهمته ثم يفاجئون بهجوم كاسح على خمسة أكمنة فى رفح ويسقط العشرات من الضباط والعساكر وكأنهم لم يقرأوا ولم يلاحظوا.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات