«حياة».. بين دماء دير ياسين - ناجح إبراهيم - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:00 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«حياة».. بين دماء دير ياسين

نشر فى : الجمعة 4 أغسطس 2017 - 9:20 م | آخر تحديث : الجمعة 4 أغسطس 2017 - 9:20 م
فى عصر أحد أيام يناير سنة 1948 كان الثلج يتساقط على القدس والرياح الباردة تعصف بشدة دخلت «حياة بلابسى» عليه مكتبه بإذاعة القدس العربية، عرف مأساتها فقد فقدت أباها منذ زمن، أما والدتها فكسيحة طريحة الفراش، وأختها صغيرة لا تقوى على شىء فوقع عليها عبء رعاية والدتها وأختها فضلا عن كسب المعاش؛ حيث لا مورد للأسرة، تركت الدراسة الثانوية وعملت كمدرسة إضافية فى قرية «دير ياسين» المجاورة للقدس براتب 8 جنيهات شهريًا.
كانت تترك القدس فى السادسة صباحا، تمر فى طريقها على الأحياء اليهودية لتصل إلى دير ياسين ذهابا وعودة، كانت تقطع 20 كيلومترًا يوميًا فى هذه الرحلة، تعلمت التمريض وكانت تمرض القرويين وتزور المرضى فى أكواخهم، وتحول الحالات الصعبة إلى دائرة الصحة بالقدس.
أتمت عامها الأول فى قرية «دير ياسين» فأحبها أهلها جميعا، وأصبح اسمها مرادفا للتربية والطهارة والوطنية الصحيحة.
عادت يومًا لبيتها فى القدس فوجدت أمها قد فارقت الحياة، لم تنهزم أمام صروف الدهر، زاد مرتبها إلى 10 جنيهات ذهبت لتعيش فى دير ياسين، وسكنت فى نفس المدرسة، كانت لا تملك من حطام الدنيا شيئا.
كان «دير ياسين» محاط بأربع مستعمرات صهيونية، خافت على نفسها، كونت حامية من فتيات القرية خوفًا من هذه المستعمرات الصهيونية المدججة بالسلاح حول القرية.
غط سكان القرية فى نوم عميق مثل كل ليلة، لم يعلموا أن فجر 10 إبريل سنة 1948 سيكون بداية لأبشع مذبحة يرتكبها الصهاينة فى حق الشعب الفلسطينى، وأن قريتهم ستكون بداية الزحف نحو القدس، وأن ألفين من العصابات الصهيونية المسلحة ستطبق على القرية وتفجر بيوتها واحدا تلو الآخر.
كان سكان القرية قرابة 400 فلسطينى انتهت المذبحة بمقتل 360 منهم وفر الباقون، كانوا يقتلون النساء والأطفال والشيوخ، وإذا قبضوا على فتيات قتلوهن فورا جمعوا الجثث فوق بعضها وأحرقوها.
هبت «حياة» من نومها وهى فى قميص النوم، هامت على وجهها فى الحقول وبين التلال خوفا من المهاجمين، بعدها وجدت نفسها فى مكان أمين خارج القرية، كانت تستطيع اللجوء إلى أى قرية عربية ولكنها سمعت أنينا بالقرب منها فاتجهت إلى مصدره وجدت أمامها جريحين من سكان «دير ياسين» تقدمت منهما، مزقت جزء من قميصها ضمدت جراحهما، استقر رأيها على وضعهما فى مغارة قريبة حتى يأتى الهلال الأحمر أو تخبره بهما.
حملت أحدهما على كتفيها متجهة به إلى المغارة انطلق رصاص الصهاينة المهاجمين عليهم سقط الجريح قتيلا، ولفظت «حياة» أنفاسها بطلقات أخرى، أما الجريح الثانى فقد كتبت له الحياة ليروى للدنيا كلها خاتمة «حياة» وغدر العصابات الصهيونية وانتهاكها لكل المحرمات الإنسانية والدينية.
هكذا حكى الأديب الفلسطينى النابغة «نجاتى صدقى» جزءًا من قصة مذبحة دير ياسين من خلال مأساة هذه الفتاة الفلسطينية التى قتلتها هذه العصابات وهى تحاول إنقاذ الجرحى وهى لا تحمل سلاحا وقتلت غدرا من ظهرها.
كانت ضمن 360 قرويا بسيطا قتلوا غدرا وخيانة وتفجيرا لبيوتهم وحرقا لجثثهم، أما قرية دير ياسين فقد محيت من الوجود لتحل محلها مستعمرة إسرائيلية اسمها «جفعات شاءول» والتى صارت الآن جزءًا من القدس الغربية المحتلة.
قصة وبطولات «حياة» لم يسجلها حتى الآن فيلم وثائقى أو روائى عربى، أو يلمسها قلم أديب يصوغها فى سياق تاريخى صحيح يبين الظلم والبغى الذى وقع على الفلسطينيين، وكيف قتلتهم وهجرتهم واغتصبت بلادهم بغير حق تلك العصابات التى كونت دولة أصبحت من أقوى دول المنطقة نتيجة التآمر البريطانى والتواطؤ الغربى والضعف والهوان العربى، وأصبح العرب جميعا يخطبون ودها ويقدمون لها القربان تلو الآخر فتبتلعه وتطلب غيره دون شكر أو رغبة فى إعادة بعض الأرض بل رغبات متجددة فى ابتلاع كل شىء.
ولم تعد تكتفى بأرض فلسطين حتى طمحت، اليوم، فى مال الخليج فضلا عن النفوذ الممتد فى كل بلاد العرب مثل كردستان العراق وأصبحت معظم الفصائل المتقاتلة فى سوريا، التى تقاتل بعضها صباحا مساء حتى إذا أتت عند إسرائيل رفعت لها قبعة الاستسلام.
انتصرت العصابات على «حياة بلابسى» التى لم يهتم بها أو ينصرها أحد، ولم يعد يذكر تاريخها أحد، ولكن محكمة العدل فى الآخرة ستفصل بينها وبين قاتليها وستثأر لها منهم، سلام على الشهداء فى كل زمان، سلام على «حياة» رمز الحياة الأبدية، فهى حية لم تمت عند ربها وفى نفس كل وطنى وعربى ومسلم.

 

التعليقات