بداية عقد جديد.. أم عهد جديد - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بداية عقد جديد.. أم عهد جديد

نشر فى : الأربعاء 5 يناير 2011 - 9:42 ص | آخر تحديث : الأربعاء 5 يناير 2011 - 9:42 ص
اتفق مطلع الأسبوع الحالى مع بداية السنة الأولى من العقد الثانى للألفية الثالثة. ولمضى الزمن وتجدده سحره الخاص، لأنه رغم استحالة استعادة ما فات منه، يظل عالقا بالأذهان، أو بالأحرى يترك ذكريات عن أحداث كان لها شأنها فى وقتها، ويختزن منه الناس تجارب عاشوها وخبرات طوروها وآمال يحلمون بتحقيقها فى الزمن المستقبل.

ينشغل الناس عادة باسترجاع أحداث الماضى القريب الذى عاشوه خلال عقد انتهى ويحاولون تلمس ما قد يحمله لهم عقد جديد تحددت معالم بداياته ولكن الغيب يحجب عنهم واقع حياتهم فى خلاله. وقد كان للعقد الماضى مذاقه الخاص إذ صحبته مناسبتان: بدء ألفية جديدة لم يشهد ما يناظرها أجدادهم الأقربون، واستهلال قرن جديد شهدت بداية سابقه قلة وُهبت طول العمر. وتوسم الناس خيرا فى هذا التزامن واستبشروا بحياة أفضل يتيحها لهم بلوغ المعرفة مستويات غير مسبوقة ساد الأمل فى توظيفها لإسعاد البشر. لكن ما شهده ذلك العقد من أحداث جعلهم يستشرفون المستقبل بالكثير من القلق.

غير أننا لو تجردنا من هذه النظرة التى تقصر النظرة إلى الزمن فيما يمر به من أحداث نعيشها يوما بعد يوم، فإنه يحق لنا أن نتأمل ما بات يحكم المجتمعات البشرية من قواعد وروابط تسهم فى صنع الأحداث، ومن ثم يكون علينا أن نتساءل عما إذا كانت تلك القواعد والروابط تبقى فى الأطر التى اعتدناها حتى الآن، أم أننا على مشارف عهد جديد يشهد العقد المقبل تبلور معالمه. وقد يتبادر إلى الذهن أن العقود القليلة الماضية شهدت تطورا هائلا فى المعرفة يدرج عادة تحت عنوان الثورة التكنولوجية، ويطلق عليه اسم الموجة الثالثة التى تلت موجتين سابقتين، الأولى حكمتها الطبيعة فانشغل البشر بالأنشطة الأولية وفى مقدمتها الزراعة، والثانية حكمها تحكّم البشر فى المادة والطاقة، جرى الانتقال فيها إلى الأنشطة الثانوية على رأسها الصناعة وما يرتبط بها من خدمات إنتاجية واستهلاكية، لتفتح الثالثة آفاقا غير محدودة تسود فيها خدمات المعلومات والاتصالات.

ومع كل موجة سابقة أعاد الإنسان تنظيم علاقاته الاجتماعية على ضوء الثقافة التى طورها فى كيفية التعامل مع البيئة المستجدة. ففى الموجة الأولى حكمت مصادر الموارد الأولية ــ الأرض الصالحة للزراعة والسكن والمياه ــ شكل المجتمع، إذ تحكّم فيه الإقطاع واستبيح الرق الذى أخذ أبشع صوره عندما انتقل الإنسان الأبيض إلى العالم الجديد فحشد العبيد الأفارقة لاستصلاح واستزراع الأراضى التى نهبها من أصحابها، وعاش الاستعباد طويلا وخلفته العنصرية حتى الآن.

وعندما انطلقت الثورة الصناعية اعتمادا على الآلة والطاقة ــ البخار ثم الكهرباء ــ أو ما يسمى برأس المال العينى، تحكم مالكوه فى مصير العباد، وأدى تعدد فروع الصناعة وما يتصل بها من خدمات إلى ضرورة تجاوز الإقطاعيات وما أقامته من إمبراطوريات، إلى تجمعات شكلت الدول القومية، إما بالاتفاق أو بالصراع، وصولا إلى تجمعات إقليمية أعلت من شأن التكامل الاقتصادى ثم تنظيم العلاقات الدولية، وتفشى الظاهرة الاستعمارية الاستيطانية. ووظفت المنظومة العلمية فى خدمة الدولة الحديثة، لتقوم فى نشاطها التعليمى بإعداد العاملين فى خدمة الدولة القومية بأنشطتها المختلفة، السياسية والأمنية والإدارية والقانونية والخدمية، وبتهيئة الفنيين وتنمية مهاراتهم، والعلميين القادرين على التعمق فى مختلف العلوم وإجراء البحوث اللازمة للتطوير. وأدى تعدد أبعاد المجتمع وتعقد علاقات فئاته إلى توالى حركات التمرد وتطوير تلك العلاقات.

انطلقت بعض الحركات فى الجوانب الثقافية، فدفعت الثورة الفرنسية إلى بلورة معالم الدخول فى عصر النهضة. وتبع ذلك التخلص من القيود التى فرضها رجال الدين، فتراجع دور الكنيسة حيثما طغت، لتسود توجهات علمانية. وشهدت بريطانيا تمردا على سيطرة النبلاء فانطلقت فى مجال السياسة لترسى معالم مشاركة من خلال مؤسسات حددت أطر الديمقراطية السياسية التى شهدت تطورات نعايش التقدم فى النشاطين السياسى والاقتصادى. وظهرت مدارس اشتراكية استند بعضها إلى أسس أخلاقية، بينما ركزت الاشتراكية العلمية على الأبعاد المادية التى تتجلى فى الجوانب الاقتصادية، وتغاضت عما عداها. وبعبارة أخرى تعددت المقاربات واختلفت المناهج، وكتب التطبيق العملى لتلك التى تمكنت فيها الفئات المهيمنة على مقادير الحياة من إقناع الفئات الأقل حظا بالتوافق مع صيغة لا تنتقص كثيرا من وضعها. ولا يعنى سيادة تلك الصيغة ردحا من الزمن، أنها الأفضل على الإطلاق، والأجدر بالبقاء، إذ قد يستجد من التطورات ما يدفع إلى إعادة النظر، ربما بصورة جذرية.. فلا نهاية للتاريخ كما يزعم البعض.

ولعل ما تجمع من تطورات وتغيرات فى الآونة الأخيرة ما يؤذن بمقدم عهد جديد يعيد تشكيل مقومات المجتمعات البشرية، والعلاقات داخل كل منها وفيما بينها، ويستدعى بالضرورة مراجعة واعية للنظم التى تكفل الاستقرار والازدهار لها جميعا. وإذا شئنا تلخيص العوامل المؤثرة فى حركة الإنسان المستقبلة فى أمرين، فإن أولهما هو انتقال العنصر الفاعل من التراكم الموروث عن الماضى، سواء من موارد طبيعية أو رأسمال مادى أو معرفى، إلى تكاثر مستقبلى يتولد عن قدرات الخلق والإبداع التى تفتح أمام البشر آفاقا غير محدودة ينطبق عليها قول الخالق جل شأنه: علّم الإنسان ما لم يعلم. أما الثانى، والمتفرع إلى حد كبير عن الأول، فهو اكتساب المفردات قدرات تفوق ما لدى الجموع.

لقد تبدت هذه الظاهرة فى اكتساب عابرات القوميات، قدرات تجاوزت حدود المجتمعات التى نشأت فيها، وسرعان ما انتقلت إلى وحدات أخرى لعل أبرزها المؤسسات المالية ووسائل الإعلام التى كانت المستفيد الأكبر من الربط بين المعلومات والاتصالات. وبحكم أن الإبداع ينطلق أساسا من ملكات الفرد فإنه يظهر مبكرا منتظرا ما يصقله، ويغزر فى سنى الشباب بعكس الخبرات المكتسبة التى تنضج بتقدم العمر. ومن ثم أصبح تقدم المجتمعات البشرية مرهونا بما يتاح للجيل الأصغر من فرص للتعبير عن الخواطر، وترجمتها إلى واقع ملموس. على الطرف الآخر أدت المبتكرات العلمية المتتالية إلى إطالة سنى الشيخوخة المصحوبة بقدرة على الاستمتاع، بل وأحيانا بمواصلة العطاء والإبداع.

إن هذه التطورات التى تقلل من وطأة الموروث، وتزيد من وزن المفردة، وتفتح آفاقا واسعة أمام الأجيال الأصغر، وغلبة حاجة الأجيال الأكبر سنا إلى مساندة الأصغر على إعالة الأكبر للأصغر، وتوالى المنتجات المعرفية بأسرع من المادية، تتطلب منا إعادة النظر فى التركيبة الاجتماعية داخل كل مجتمع وطنى وعلى المستوى العالمى الذى بات ينظر إليه على أنه قرية كبيرة. فبينما كان من يملك يستعبد من لا يملك فى عهود سيادة الملكية المادية، فإن من يعرف يستبعد من لا يعرف فى المجتمعات المعرفية. وينطبق هذا على العلاقات بين الدول، وهو ما أدى لنزعة لاستئصال شعوب دمغت بالتخلف. وتنشئ القدرة على التعارف عبر الحدود علاقات بين أجيال صغيرة يضيق لديها الحيز المتعلق بالوطن، أو على الأقل بالموطن. وإذا كان تعدد فرص الثراء السريع غير المرتبط بثقافة علمية ومجتمعية، قد أحدث ميوعة اجتماعية توارت فيها الطبقة الوسطى، فإن التطورات السابقة تفقد الطبقات، بما فيها الوسطى مغزاها. ويقتضى الأمر إعادة بناء المنظومة التعليمية، ليس بالاستعاضة عن التلقين والاستذكار، بالقدرة على البحث عن المعلومة وحسن توظيفها، بل ببناء ملكات التخيل والإبداع والعطاء وإحكام القدرة على اتخاذ القرار، بدءا من سنى الطفولة الأولى.
محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات