الانفتاح الاقتصادى .. ورقة أكتوبر المقدمات والنتائج - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 1:33 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الانفتاح الاقتصادى .. ورقة أكتوبر المقدمات والنتائج

نشر فى : الإثنين 5 يناير 2015 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 5 يناير 2015 - 8:00 ص

جاء فى ختام المقال السابق أن آخر خطوات تصويب المسار الاقتصادى إعداد سياسات جديدة فى ضوء الدراسة التى أعددتها قبل اندلاع حرب يونيو 1967 بثلاثة أشهر وما ترتب عليها من تداعيات أحدثت تغييرات جوهرية امتدت إلى فتح الطريق أمام ثورة مضادة أوصلتنا مؤخرا إلى ثورة لا تزال تجاهد للتخلص من عواقبها المتعددة. وقد بُنيت تلك الدراسة على إعداد تنبؤات عن تطور مواردنا من النقد وفق شرطين: تعديل الخطة القومية لتأمين استرجاع القدرة على تحقيق غاياتها الأساسية من نمو اقتصادى وعدالة اجتماعية بالتأكيد على الالتزام بالميثاق الوطنى لعام 1962 (وكان مقررا إخضاعه للمراجعة فى ضوء التطبيق العملى) وما دعا إليه من تطبيق عربى للاشتراكية، أى إقامة نظام ينبثق من واقع الأوضاع السائدة وما يستجد من تغييرات، لا الأخذ بمناهج جرى التنظير لها لتعالج اقتصادات لا تمت لواقعنا بصلة، وتتقبلها مجتمعات تختلف عنا اختلافا بيّنا فى منظوماتها الثقافية؛ والعمل فى نفس الوقت على صيانة الأمن القومى، باعتبار أن الأمن والإنماء رفيقان متلازمان لا يصلح أحدهما إلا بالآخر.

فعندما عقدنا العزم على طرق أبواب التصنيع قررنا الاعتماد على تنمية مواردنا الذاتية بما فيها ما استرددناه من أيدى الاستعمار، خاصة من الأرض القابلة للزراعة ومن المياه التى ترويها، وتوفر الطاقة اللازمة للتصنيع لاسيما الصناعات الأساسية التى بدونها تظل إرادتنا رهينة قرارات دول رأسمالية شددت قبضتها على البنيات الاقتصادية للدول النامية لتظل أسواقا لمنتجاتها، كبديل للاحتلال السافر، وهو ما أُطلق عليه الاستعمار الجديد. وفى نفس الوقت كان لابد من امتلاك هامش مأمون للتصرف فى مواردنا من النقد الأجنبى بقدر يمكننا من مواصلة رفع الإنتاجية، بما فيها إنتاجية مواردنا البشرية، بطرق كل الأبواب شرقا وغربا لتحسينها، مع التحسب لما بدأت تتعرض له المعونات الغربية من نضوب، وفى مقدمتها المعونات الألمانية التى نجح الصهاينة فى 1965 فى تحويلها إلى تعويضات عن الهولوكوست المزعومة؛ والحذر من الاعتماد على قروض بدأت تتجاوز الحدود المخططة، فضلا عما أظهرته الدراسات التى أجريتها من كونها فى واقع الأمر تصب فى خانة الاستهلاك الجارى لا الاستثمارات اللازمة لتوفير احتياجاته.

وراعت الدراسة قرار تجنب إشعال حرب للتخلص من تهديدات إسرائيل بالتمدد من الفرات إلى النيل ولإرجاع الحقوق العربية فى فلسطين لأصحابها، والتحسب فى نفس الوقت للتصعيد الإسرائيلى المستمر، بعون أمريكى فى التسليح والتصنيع الحربى، وتبرعات من يهود منتشرين فى كل أرجاء العالم، وقوى عاملة شارك بعضها فى الحرب العالمية، وحصل أغلبها على خبرة فى أفرع الصناعات الحديثة، ومنها العسكرية. ولكن استمرار حالة اللاحرب واللاسلم كان يشكل عقبة كأداء. وباستطلاع رأى قائد كتيبة الصواريخ التى يمتلكها الجيش، حول احتمالات الحرب حذرنى من أنها ستصيبنا بلطمة لا نفيق منها. فالمناورات التى كان يدعى عبدالناصر لمشاهدتها كانت مرتبة لتقنعه بارتفاع المستوى، أما غالبية السلاح فكانت حبيسة صناديقها. وإضافة إلى تدليل مجموعة ملتفة حول المشير عامر، فإن المجندين كان أغلبهم ممن لا يملكون مؤهلات، وهو ما جعل نسبة القادرين على قيادة سيارة صواريخ لا تتجاوز 1 إلى 60.

وعقب وقوع المحظور فى يونيو 1967 كان من الضرورى، إلى جانب الاستعداد لحرب استرجاع الأرض المحتلة، الاستمرار فى تحقيق أقصى قدر ممكن من التنمية لتلبية حاجات الشعب الأساسية بأسعار معقولة لتجنيبه تحمل المزيد من الأعباء مع مواصلة استكمال أركان العدالة الاجتماعية، فى الوقت الذى كانت القيادة تعمل على تعويض السلاح المفقود والتزود بما يمكنها من كسب نصر مؤكد حتى لا نتعرض للطمة ثانية تكون القاضية، مع الارتفاع بالقوة البشرية اعتمادا على ضباط الاحتياط ذوى المؤهلات وفى مقدمتهم المهندسون. وكان الشعار الذى رفعه عبدالناصر «يد تبنى ويد تحمل السلاح». ثم كانت حرب الاستنزاف نوعا من التدريب ورفع الكفاءة القتالية، مع الحفاظ على الروح المعنوية للمقاتلين فى ظل طول المدة التى توقعنا كأفراد مشتغلين بالتنمية ألا تقل عن خمس سنوات، وكذلك لبث الأمل فى المدنيين لكى يقبلوا التضحية لمساندة جيش استرد قدرته القتالية ليصبح جديرا بتحقيق ما عقد عليه من آمال. وأكدت ورقة أكتوبر التى أعلنها السادات فى إبريل 1964 أن القطاع العام كان السند الأساسى لمرحلة العبور المدنى الذى هيأ للعبور العسكرى.

يُردد كثيرا أن عبقرية السادات السياسية تجلت فى التمويه على العدو ليفاجئه وهو ــ على حد قوله فى خطابه لمجلس الشعب ــ «سراويله مدلاة». وحقيقة الأمر أن الخداع كان من جانب القيادات التى استكملت استعادة القوة العسكرية التى أعاد عبدالناصر ومحمد فوزى بناءها؛ فقرار الحرب لا يُبنى على تفسير كلمات من رئيس الدولة العدو، بل فى ضوء استطلاع أجرته إسرائيل ليلا ونهارا. وكان أول نجاح جوهرى لتكتيكاتهم الميدانية النجاح فى إقامة حاجز الصواريخ الذى ساهم فيما بعد فى نجاح الضربة الجوية المنسوب كذبا إلى مبارك وحده. خلال تلك الفترة لم تكن موارد النقد الأجنبى ولا العمالة التى تبقت بعد توجيهها لميدان القتال تكفى لتدبير احتياجاتها من قطع الغيار وتشغيل المصانع. ومرة أخرى تجلت كفاءة إدارات وحدات القطاع العام فى البحث عن بدائل من صنع محلى ومن دول صديقة فى مقدمتها الاتحاد السوفييتى، حتى للمصانع التى كانت مقامة بتكنولوجيات غربية.

أما الخداع الحقيقى الذى مارسه السادات فكان من نصيب الشعب. بدأ بانقلاب 15 مايو 1971 للتخلص ممن كانوا على رأس المؤسستين التنفيذية والتشريعية، والجهاز السياسى. وسمح له ذلك بإطلاق يده للحنث بوعده بالالتزام ببيان 30 مارس. الخداع الثانى إيقاعه الفرقة بين قيادات الجيش ليفى بوعده لكيسنجر بألا يستمر فى القتال إلى أن تزال كل آثار العدوان. الخداع الثالث أنه أوهم الشعب أن ما حققه من انتصار بالعبور أنهى حالة الحرب وأنه آن الأوان للعودة إلى الأحوال الطبيعية. وبناء على وعد من كيسنجر بانسحاب إسرائيل إلى العريش قبل أغسطس 1974، طالب د. عبدالعزيز حجازى بإزالة القيود عن رواتب العاملين فى الجهاز الحكومى بدعوى أن هذا يقنع الشعب بالانتصار حين يتذوق ثماره (dividend). فتدفقت أموال تبحث عن منتجات استهلاكية لا تتوفر محليا أو من الخارج خاصة فى ظل تفجر تضخم ركودى عالمى، وقفز متوالٍ فى أسعار القمح عولج بدعم أفلت عياره.

أما الخداع الأكبر فكان الادعاء أننا كسرنا حاجزا نفسيا أعاق مسيرتنا، وهو عكس ما بيناه أعلاه من استرداد ثقتنا كاملة بالنفس فتأكدت جدوى الاعتماد على الذات. وتلا ذلك فتح باب الهجرة للتخلص من العمالة الماهرة التى كادت تصبح نواة صلبة لاستكمال البناء الاشتراكى الكفيل بدعم الاستقلال الذاتى وتعزيز هيكل النموذج الذى كانت دول أفريقيا وآسيا حديثة الاستقلال تستلهمه لتشكل قوة تضرب الاستعمار الجديد فى مقتل. وأكمل منظومة الخداع بإيهام المتشوقين للكسب السريع بأنهم امتلكوا حريتهم وهو يعلم علم اليقين أنهم لا يملكون ما يستثمرونه فى إنتاج حقيقى فتكالبوا على مضاربات وتجارة تصدير واستيراد ثم اعتبرهم «طفيليين» دون أن يتخذ الإجراء اللازم لتقويم سلوكهم. واختتم منظومة الخداع بتجنبه ــ وهو العسكرى النشأة ــ ذكر ولو كلمة واحدة فى ورقته الإبريلية عن حماية الأمن القومى خلال ربع قرن يمتد إلى عام 2000. فاطمأنت أمريكا وإسرائيل إلى امتلاك جميع مفاتيح بوابة السلام كاملة، أو 99% منها كما كان يردد، فى غفلة من شعب يعيش على أناشيد النصر. وكان هذا هو الهدف الرئيسى من ورقة نسبها زورا إلى أكتوبر.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات