توازن الاقتصاد بين محفزات النمو وتحدياته - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:09 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

توازن الاقتصاد بين محفزات النمو وتحدياته

نشر فى : الإثنين 5 فبراير 2018 - 9:55 م | آخر تحديث : الإثنين 5 فبراير 2018 - 9:55 م

بنهاية جلسات التداول يوم الجمعة الماضية أنهت وول ستريت أسوأ أسبوع لها منذ عامين. الأسواق الأوروبية تراجعت هى الأخرى وسط مخاوف مبررة من ارتفاع متوقع فى العائد على السندات، مدفوع بإشارات مبكرة لمعدلات تضخم مرتفعة نسبيا نتيجة لتسارع وتيرة النمو الاقتصادى فى الولايات المتحدة والزيادة فى الأجور بعد سنوات من الركود. سجل العائد على السندات الحكومية الأمريكية أكبر ارتفاع له منذ يناير ٢٠١٤ وسط انخفاض أسعار تلك السندات فى بورصات الأوراق المالية.

انخفض مؤشر داوجونز الصناعى بمقدار ٦٦٥ نقطة لينهى آخر جلسات الأسبوع على انخفاض نسبته ٢٫٥٪‏ ليغلق المؤشر تحت مستوى ٢٦٠٠٠ نقطة (٢٥٥٢٠) ذلك المستوى القياسى الذى بلغه المؤشر فى ١٧ يناير الماضى.

حمى البيع التى اجتاحت البورصات الأمريكية والأوروبية جاءت فى أعقاب إعلان وزارة العمل الأمريكية عن تقرير الوظائف الشهرى والذى كان أفضل كثيرا من المتوقع، الأمر الذى تزداد معه المخاوف من ارتفاع أسعار الفائدة لامتصاص أى ضغوط تضخمية متوقعة.

الاقتصاد الأمريكى الذى اعتاد على النمو بمعدلات «صحية» قدرت بين ٢٪‏ إلى ٣٪‏ نموا فى الناتج المحلى الإجمالى يصطدم حاليا بوعود الرئيس الأمريكى بتحقيق معدلات نمو تصل إلى ٤٪‏! وعلى الرغم من عدم واقعية تلك الوعود فإنها ترسل إشارات تنتعش لها البورصات فى الأجل القصير (كما أوضحنا فى مقال سابق)، لكن سرعان ما تؤثر فى الاقتصاد العينى بما يؤثر سلبا على أداء سوق تداول الأوراق المالية بعد حين. سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة أدت إلى استقرار معدل النمو المتوقع فى ٢٠١٨ عند ٢،٥٪‏ مقارنة بمعدل ٢،١٪‏ فى ٢٠١٦ علما بأن توقعات النمو لعامى ٢٠١٩و ٢٠٢٠ هى ٢،١٪‏ و٢٪‏ على التوالى مع الأخذ فى الاعتبار السياسات التوسعية لإدارة ترامب. معدلات البطالة مرشحة للتراجع إلى ٣٫٩٪‏ فى عامى ٢٠١٨و ٢٠١٩ لترتفع قليلا إلى ٤٪‏ عام ٢٠٢٠ لكنها مع ذلك أفضل من ٤،١٪‏ المحققة فى عام ٢٠١٧ و٤٫٧٪‏ فى عام ٢٠١٦ وكذلك أفضل من المستهدف الفيدرالى والبالغ ٦٫٧٪‏، وذلك مع الأخذ فى الاعتبار اعتراف «جانيت يلين» رئيس الفيدرالى الأمريكى بأن كثيرا من الوظائف التى خلقت أخيرا هى وظائف مؤقتة ومنخفضة الأجر وتنحصر بشكل كبير فى مجال التجزئة والأغذية ولن يتأتى لأصحابها العودة إلى وظائفهم الأعلى أجرا والأكثر استقرارا فى الأجل الطويل، بما يؤشر بارتفاع معدلات البطالة الهيكلية وإن بدت البطالة أقل نسبيا.

معدلات التضخم متوقع أن ترتفع إلى ١٫٩٪‏ فى ٢٠١٨ ثم إلى ٢٪‏ عام ٢٠١٩ مقارنة بمعدل ١٫٧٪ فى ٢٠١٧ ومع ذلك فهى أفضل من ٢٫١٪‏ التى سادت عام ٢٠١٦.

***

القطاع الصناعى الأمريكى من المتوقع أن ينمو بمعدلات أعلى من نمو الناتج المحلى الإجمالى ليبلغ الناتج الصناعى نحو ٢٫٨٪‏ عام ٢٠١٨ ثم يتباطأ فى ٢٠١٩ ليبلغ ٢٫٦٪‏ وفى عام ٢٠٢٠ يتراجع كثيرا إلى ٢٪‏ لكن هذه التوقعات الأخيرة لم تأخذ فى الحسبان وعود ترامب بخلق مزيد من الوظائف.

سعر الفائدة على الأرصدة الفيدرالية قصيرة الأجل current fed funds rate مرشح للارتفاع إلى ٢٫٩٪‏ فى ٢٠٢٠ صعودا من ١٫٥٪‏ فى ديسمبر ٢٠١٧ ! وهو ارتفاع كبير من شأنه تقويض النمو وتشجيع الادخار وإعادة الهيكلة المالية لتخفيض نسبة الدين إلى رأس المال.

الاقتصاد الأمريكى أكبر من أن يتحرك «بسرعة» فى أى اتجاه دون أن يخل ذلك بالعديد من التوازنات فى أسواق العمل والسلع ومنتجات الطاقة والأوراق المالية والعملات.. بما تكون محصلته النهائية سلبية وإن عكس مؤشرات إيجابية فى ظاهرها.

الاقتصاد بصفة عامة قائم على التوازنات، والنظرية النيوكلاسيكية الأكثر تأثيرا فى اقتصادات السوق تعلى من أهمية تلك التوازنات. من السذاجة أن يعتقد البعض أن تحسن مستويات البطالة ومعدلات التضخم بصورة كبيرة ومفاجئة هو شىء جيد وصحى! خاصة إذا كان الاقتصاد يشهد وضعا توازنيا أو أقرب إلى التوازن، لأنه وببساطة سيتسبب هذا التحسن المزعوم فى اختلال التوازن إلى أن ينشأ وضع توازنى جديد عند مستويات جديدة.

كذلك فمن الأهمية بمكان تمحيص البيانات التى يستدل بها على تحسن المتغيرات الاقتصادية، تماما كما أسلفنا فى تمحيص تحسن مؤشرات البطالة الأمريكية، وما تضمنته من زيادة فى معدلات البطالة الهيكلية المصحوبة بتراجع القوى الشرائية وليس زيادتها كما توقع المتعاملون فى وول ستريت على أثر الإفصاح عن تقرير الوظائف الأمريكية.

***

ينبغى أيضا أن ننظر إلى أهمية القطاع الصناعى كقاطرة للنمو فى مختلف الدول، وليس فقط فى الدول النامية التى صارت مضرب الأمثال فى الاعتماد على استراتيجية التصنيع لتحقيق التنمية الشاملة، مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية والمكسيك... مازال هذا القطاع المهم يوفر وقودا لنمو الاقتصاد الأمريكى مع قدرته على توفير العديد من فرص العمل المستقرة مرتفعة الأجر. كذلك يحد الإنتاج الصناعى المحلى فى دولنا النامية من إهدار الموارد الطبيعية فى صورتها الخام، مادام استخراجها واستغلالها مقتصرَين على احتياجات التصنيع، وظل التصدير مشروطا بتوافر قيمة مضافة فى المنتج الصناعى.

الصناعة المصرية تواجه تحديات كثيرة، لكن أبرز التحديات يمكن ردها إلى ضعف الثقافة التمويلية وغياب مفهوم إدارة المخاطر. تقلبات أسعار مواد الطاقة، والعمالة غير المدربة، وتخلُف التكنولوجيا، وضعف التنافسية... كلها أعراض لهذا العيب الخطير. فالتمويل الذى هو ضرورة لازمة لإتمام أى مشروع جديد green field أو لتطوير أى مشروع قائم عادة ما يختزل فى مصادر التمويل التقليدية والتى تبحث عن قرض مصرفى حال غياب التمويل الذاتى! القدرة على تمويل احتياجات المشروع الصناعى عبر بدائل مختلفة مثل صكوك المشاركة ومشروعات البناء والتشغيل والنقل BOT وسائر صور الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وباستخدام أدوات مالية متعددة منها ما يساعد على التحوط ضد مخاطر تقلبات الأسواق مثل عقود الخيارات والعقود المستقبلية وأوراق المبادلة.. هى التى تميز مشروع صناعى تقليدى لا يقوى على منافسة الفائدة البنكية على الودائع ناهيك عن منافسة المشروعات الناجحة فى مجاله، وبين مشروع صناعى مبتكِر يُعظم الاستفادة من مختلف بدائل وأدوات التمويل والتحوط المتاحة فى الأسواق العالمية إن هى غابت عن السوق المحلية.

***

الدولة أيضا عليها أن تميز فى سياساتها الضريبية والاستثمارية بين مشروع صناعى له جدوى اجتماعية فضلا عن جدواه الاقتصادية ووفورات حماية الأمن القومى وتحقيق الاكتفاء الذاتى، وبين مشروعات تجارة الجملة والتجزئة التى تحقق ربحا كبيرا لأصحابها لكن عائدها المجتمعى محدود وأحيانا سلبى. وهناك العديد من الدراسات التى أوضحت كيف تسببت استراتيجيات التصنيع فى تقليل الفجوة بين الطبقات ومكافحة الفقر خاصة إذا استندت إلى سياسة رسمية مشجعة وواعية، فتركز الصناعة جغرافيا فى شرق الصين على سبيل المثال ساهم فى تعميق الفجوة بين مستويات الدخول.

تنوع الاقتصاد المصرى يغرى بالمستثمر الذى تتوافر أمامه حوافز الاستثمار اللازمة أن ينوع محفظة الاستثمار خاصته لتشتمل على أصول عقارية ومشروعات صناعية وزراعية وسياحية وتحديدا خلال فترات عدم اليقين والاضطرابات التى تجتاح العالم والتى تتراجع فيها أهمية الخدمات والنقود أمام الاقتصاد الحقيقى.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات