هكذا تكلم ماكرون - داليا سعودي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:09 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هكذا تكلم ماكرون

نشر فى : الإثنين 5 فبراير 2018 - 10:00 م | آخر تحديث : الإثنين 5 فبراير 2018 - 10:00 م

عباراته تستحق الإنصات والدراسة، سواء حين يتحدث فى جمع صغير أو حينما يخطب فى مؤتمر جماهيرى. مقدرته غير عادية على ضبط حساسية الكلمة مع انتقاء نبرة الصوت، وتخير الإيماءات والإحالات، والتحكم فى تعابير الوجه إيقاع الجمل وثبات الانفعالات. يرشده فى ذلك سليقة مدربة وتدبير ممنهج، يقيس المسافة بين المنطلق والغاية بحسابات محكمة، لا تفسح مجالا لمتاهات ارتجال، أو تترك حيزا للعبة مصادفة. هكذا يتحدث الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فيتبين السامع لغة ذات جذور وطبقات، وأفكارا مرتبة مترابطة تحيك نسيجا أملسا تكتسى به قدرته على الإقناع، تلك القدرة التى يتكئ عليها السياسى، ولا تستقيم له من دونها أى ممارسة ديمقراطية.

**

فى تونس، الأسبوع الماضى، وقف الرئيس ماكرون يخطب فى قصر «باردو» التاريخى من دون أن يقرأ نص خطابه من ورقة أمامه. لكن جلاء أفكاره كان ناصعا وهو يحيى الثورة التونسية، ويؤكد أن باب الربيع العربى الذى انفتح قبل سبع سنوات لم يغلق بعد، حتى وإن أراد البعض المسارعة بإغلاقه. ولتأكيد حجته استعان بعبارة تحمل قدرا عاليا من البلاغة، فقال: «لقد جئتكم من بلاد استغرقت فيها سفينة الثورة قرابة مائة عام لكى تصل إلى مرفئها».

تحدث ماكرون إلى جمهوره التونسى بتواضع زاده مهابة، واحترام زاده قربا إلى عقول مستمعيه، فحيا تلك الثورة الثقافية العميقة التى أرست دعائم دولة مدنية متعافية، وفتحت نوافذ الأمل أمام المجتمع السياسى، وثبتت للعالم أن الإسلام لا يخاصم الديمقراطية، وأن تونس هى الدليل على أن قيم الحكم الرشيد ليست حكرا على دول شمال البحر المتوسط دون جنوبه؛ ذلك البحر الذى صار وفق تشبيهه أقرب لمقبرة كبيرة بسبب العنف والظلامية والفساد فى كفة، والخوف والأنانية والانغلاق على الذات فى كفة أخرى.

هذه الثورة الثقافية العميقة لم يرجعها الخطيب المفوه إلى سنوات ما بعد التحول الديمقراطى التى تلت كتابة الدستور التونسى الحالى فحسب، ولا إلى إرادة الرئيس «السبسى» لإرساء دولة المساواة والحريات فحسب، وإنما عزاها أيضا إلى مرحلة مبكرة بعد الاستقلال عام 1956، حين اتخذ الحبيب بورقيبة الخيار الأصعب والأشجع بتعميم التعليم بين طبقات الشعب، لتصبح تونس هى الإجابة على السؤال الحائر: «ماذا يصنع التعليم فى وطن ضائع، وطن خارج من غياهب الاستعمار والجهل والظلام؟» كان الخيار الأسهل وقتذاك ــ كما يذكرنا ماكرون ــ هو تجهيل الشعب، ليسهل إبقاؤه تحت وطأة حكم ديكتاتورى، وفى قبضة دولة بوليسية، لكن تونس اختارت أن تكون بلدا أضاء عقوله التعليم.

***

هذا هو دأب ماكرون حين يتكلم، فتستعاد عبر كلماته ملامح السياسة فى أثينا القديمة، حين كانت الخطابات العامة أمام جمهور الناخبين تعد المحرك الرئيس للسياسة، وحين كان فن البلاغة ملازما للممارسة الديمقراطية، وشرطا جوهريا من شروط اكتمالها. فاستراتيجيته الخطابية ترتكز دوما على الأعمدة الثلاثة التى وضعها «أرسطو» فى كتابه الشهير «عن البلاغة» كدعائم لفن الإقناع، ألا وهى مصداقية الخطيب وهيبته الأخلاقية (ethos)، وقدرته على إثارة التعاطف (pathos)، ومهارته فى الاحتكام إلى المنطق وفى حشد الحجج العقلية (logos).

كلما خطب فى مواطنيه، يرتكن ماكرون دائما إلى هذه الأعمدة الثلاثة لخدمة غرض أساسى، ألا وهو إزالة الاحتقان بين مختلف فئات الشعب وطبقاته، فنراه يحسن فى كل مرة إيجاد الجرعة المناسبة لتسكين الخواطر وإخماد مشاعر الغضب وردم فجوة الاستقطاب؛ رغم أن الخيار الأيسر لضمان التأييد هو اعتماد الخيار الشعبوى الذى يؤلب فئة على فئة، وينعق بنظرية المؤامرة، مثلما كانت تصنع غريمته فى الانتخابات، «مارين لوپن» زعيمة اليمين المتطرف، التى تعتمد هذا الخيار وتبتدع فيه طرائق جديدة، ومثلما كان يصنع سلفه الأسبق فى الرئاسة «نيكولا ساركوزى»، أو مثلما يصنع، بكثير من الصلف والعنصرية، قاطن البيت الأبيض المستر «دونالد ترامب».

كلا، ليس ذلك هو خيار إيمانويل ماكرون، الذى يبدو وكأن به فائضا هائلا من الثقة بالنفس يريد أن يوزعه على مستمعيه فى كل مرة، وثقته هذه الفائضة الضافية لا تنبع من شرعية دستورية راسخة فقط أو من استحقاق انتخابى كبير فحسب، لكنها تنبع بالأساس من موقف فلسفى عميق يعود إلى تلك الأعوام التى عمل فيها ماكرون كمساعد للفيلسوف الفرنسى الكبير «پول ريكور»، وتشرب فيها مقولات وأفكار تيار الوسط، وضرورات التقريب بين أطياف الشعب يمينا يسارا، وأهمية الابتعاد بهم عن تغذية ما سماه الفيلسوف «سبينوزا» بالمشاعر «المنحطة الحزينة» التى تؤدى إلى خلخلة المجتمعات. هذه الثقة الضافية منبتها ثقافة فكرية ولغوية لم يحملها رئيس فرنسى بهذا التألق منذ عهد «فرانسوا ميتران»، ثقافة إذا ما أضيفت إلى تكوين طالب السلطة جعلته أكثر إنسانية وأوسع إدراكا لأشواق مواطنيه، حتى فى أشد اختياراته برجماتية.

***

هذا ولا يعدل مقدرة الرئيس الفرنسى الشاب على الكلام سوى مقدرته على الإنصات. فصبره على الإصغاء للغاضبين بات مثارا للدهشة والإعجاب. يحكى أحد مشاهير الأدباء الفرنسيين أنه صاحب ماكرون فى رحلة إلى جزيرة «سان مارتان» التابعة لحكم فرنسا، فى أعقاب تعرض الجزيرة لإعصار «إيرما» المدمر. (هذا الأديب بالمناسبة من أنجح الأدباء وأكثرهم انتقادا للرئيس عند اللزوم بمعنى أنه لا يحتاج إلى شهادة الزور ولا يسعى لأضواء التزلف.) يحكى هذا الأديب أن الجملة التى ظل الرئيس يرددها أينما حل على أهل الجزيرة المنكوبة هى: «لقد جئت للإنصات إلى غضبكم». فإذا بسيدة عفية تعترض طريقه وراحت تصب عليه وعلى مرافقيه جم غضبها. اتهمته بالتقصير وبأنه لم يأت إليهم، وسط هذا الخراب، بقميصه الأبيض المكوى بعناية وبربطة عنقه التى يساوى ثمنها ثروة طائلة، إلا بهدف الاستعراض أمام كاميرات التلفزيون. كانت السيدة من الحدة ومن الصفاقة ما جعل أهل الجزيرة المتجمهرين يشرعون فى إسكاتها لتخطيها حدود اللياقة مع الرئيس. فهل انتهز الرئيس هذا الموقف واكتفى بمن أيدوه؟ بالطبع لم يفعل، لأن طبيعة ماكرون يشحذها الخلاف ويستهويها مثل هذا التحدى. فماذا فعل لاسترضاء السيدة الغاضبة؟

يحكى راوى المشهد أنه فوجئ بماكرون يصمت فى مواجهة السيدة الغاضبة لأكثر من عشر دقائق، رآه خلالها يقسم وجهه إلى نصفين: نصف شديد الجدية، انعقد حاجبه، وتجمدت نظرته وبدا مدققا مهتما، فيما النصف الآخر من وجهه بدا متفهما مطمْئنا مبديا نصف ابتسامة مشاغبة. فلما سكتت المرأة بعدما صرخت فى وجهه بكل أسباب غضبها وأدركت صمته، أردفت: أعترف أننى امرأة مزعجة! فأجابها ماكرون بابتسامة ممازحة وهو يمد لها يده بالسلام: هذا يا سيدتى لم يفتنى إدراكه ! ليغرق الحضور وهى أولهم فى موجة من الضحك!

قد يكون ماكرون كما يكتب منتقدوه، وهم كثر، هو رئيس الطبقة الغنية، الذى يبدى مسلكه أعراضا من جنون العظمة الملكية، والذى لا تحركه فى الحقيقة سوى الاعتبارات البرجماتية، والذى لا يخدم حقوق الإنسان فى سياساته الخارجية إلا بصورة انتقائية... لكن شيئا أصيلا يطل بصورة استثنائية من اجتراحه حرفة اللعب بالكلمات.

مشهد ختامى شديد الإلهام: فى نهاية خطابه فى تونس، وقبل أن يطير متوجها لمؤتمر «الشراكة العالمية من أجل التعليم» بالسنغال، لم يفت ماكرون، وهو القارئ النهم لأدب فيكتور هوجو، أن يقتبس عبارة خالدة لصاحب رائعة «البؤساء»، فقال: «إن افتتاح مدرسة يعنى غلق سجن» ثم أكمل قائلا:«نحلم معكم بإغلاق كثير من السجون».

نعم... فى البدء كانت الكلمة...

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات