أما للشركات دولية النشاط من حدود؟ - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 6:28 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أما للشركات دولية النشاط من حدود؟

نشر فى : الثلاثاء 5 مايو 2009 - 9:09 م | آخر تحديث : الثلاثاء 5 مايو 2009 - 9:09 م

 خلال النصف الأول من القرن العشرين سنّت الولايات المتحدة قوانين لمنع الاحتكار الذى مارسته شركات ضخمة تستند إلى اتساع رقعة الدولة. ووجدت تلك الشركات مخرجا لها فى أمريكا اللاتينية فكبّلتها بروابط التبعية فحدت نموها، وتدخلت فى شئونها السياسية.

وعقب الحرب العالمية الثانية تحولت تلك الشركات إلى عابرات للقوميات، تعمل فى أنشطة متعددة، صناعية وخدمية ومالية، وتنشر فروعها وتوابعها فى مناطق مختلفة من العالم تختارها وفقا لميزة لا تتوفر محليا، سواء موارد طبيعية أو أيدى عاملة رخيصة، أو لأنها شديدة التلوث، فضلا عن قربها من الأسواق، بينما تستبقى فى الداخل الأنشطة الرئيسية التى تتحكم فى تقنيات الإنتاج وتوفر وظائف عالية الأجر للعاملين فيها. وشىء فشىء استحوذت حركة المبادلات وما يقابلها من أموال بين فروع تلك الشركات على أكثر من 40% من التجارة الدولية، تنتقل بين الدول بأوامر الشركات. وتجاوزت بذلك القواعد الحاكمة للتجارة الدولية ولانتقال العملات الأجنبية، التى فرضتها على باقى العالم تحت راية حرية التجارة وحركة الأموال على مستوى العالم.

وهكذا خرجت تلك الشركات عن طوع السلطات الاقتصادية والبنوك المركزية للدول التى تنطلق منها أو تعمل فيها، واكتسبت قوى جيوسياسية جعلتها تتمرد على حكومات دول التخوم، وتبسط نفوذها على صناديق الانتخابات فى دول المركز التى تدعى الديمقراطية، فأوصلت المحافظين الجدد للحكم فى الولايات المتحدة ودفعتهم لأن يعيثوا فى العالم فسادا.

وحينما استشعرت الأمم المتحدة فى السبعينيات خطورتها أنشأت جهازا لمتابعة أعمالها، ولكنها لم تفلح فى إقرار مدونة سلوك تحكم تصرفاتها، واضطرت إلى التخلى عن متابعتها فى 1993 نتيجة التغييرات العالمية، وإلى التأكيد فى 1997 على دورها فى التنمية الاجتماعية والاقتصادية للدول الأعضاء. وتوالت بعد ذلك عمليات الاندماج والاستحواذ لتتضخم تلك الشركات، وتتحول إلى كيانات ديناصورية، معرضة كالديناصورات للانقراض.

وبديهى أن تلك الشركات لا يمكن أن تكون ملكا للقطاع العام، حيث لا ولاية للحكومات خارج حدودها. ولكونها تنتمى للقطاع الخاص يعتبرها الليبراليون منزهة عن نقيصتين ينسبونها للقطاع العام: فإدارتها تعمل بوازع الربح الخاص، الذى يغيب عن المسئولين عن وحدات القطاع العام، فتسعى لإنقاص التكلفة وتوفير الموارد إلى أقصى حد ممكن، وتحسن الاستجابة لطلب المستهلكين مما يحقق أفضل نفع لهم.

أما من حيث الملكية فإن المساهمين يراقبون أداء الإدارة، وليسوا على استعداد لتسوية أى خسائر لمجرد إبقاء الشركة على قيد الحياة، على النحو الذى تفعله الحكومة وتبدد به موارد عامة، كان الأولى إنفاقها على أوجه أكثر فائدة لدافعى الضرائب. غير أن الأحداث الأخيرة كشفت المستور، وأثبتت زيف هذه الادعاءات.

فقد اتضح أن تسيير تلك الشركات الضخمة تسيطر عليه فئة تدّعى العبقرية فى فنون الإدارة، وتستحل لنفسها أجورا ومزايا لا تتناسب مع الجهد الذى تبذله، وتلتهم فيها شريحة من الربح الذى كان سيعود على أصحاب المال لو أنهم باشروا إدارته بأنفسهم.

وإذا وجدت فرصة أخرى تهيئ لها أجرا أعلى تخلت عن مواقعها فى الشركة دون اعتبار لمشاعر الانتماء لها. وهكذا تنشأ طبقة لم تعرفها الرأسمالية عند نشأتها وخلال مراحل طويلة من تطورها. وعلى جانب الملكية تنشأ فئتان: الفئة ذات الحصص الأعلى من رأس المال والتى تتولى الإدارة العليا بالانتخاب من جمهرة الفئة الثانية، التى تشكل الأغلبية العددية والتى تأمل فى ربح زهيد على مدخرات اقتطعتها غالبا من أجور بذلت فى الحصول عليها كل ما تملكه من جهد وخبرة. هذه الإدارة العليا تقوم بتخطيط إستراتيجى يحدد مجموعة من الأهداف التى تكلف الإدارة التنفيذية بتحقيقها. ويدخل معظم أفراد الفئة العليا ضمن قائمة أصحاب البلايين التى تتبارى وسائل الإعلام فى مقارنة ترتيبهم فى قائمة بما كانوا عليه من قبل. فإذا قدروا أن العائد المتوقع سيكون أقل مما يبرر المبالغة فى إيراداتهم لجأوا إلى طرق ملتوية لإخفاء الواقع والإيهام بربحية لا وجود لها، رغم الضجة الهائلة حول الشفافية والمساءلة التى تفرض على حكومات الدول النامية.

فإذا ظهر المستور كان قانون الإفلاس فى الانتظار، مبررا بأنه العقاب العادل لمن لم يحسن الإدارة. ولكن الإفلاس الفعلى يصيب صغار المستثمرين الذين كانوا يتوقعون عائدا يغطى احتياجات لا يوفرها دخلهم المحدود، أو بعد انقطاعه. ومع الإفلاس تضيع موارد ذات نفع للمجتمع.

وبحكم امتداد نشاط الشركة الضخمة لأنشطة مختلفة وفى مناطق عديدة، فإن إفلاسها يصبح كالوباء الذى ينتشر فيصيب الجميع، خاصة إذا كانت تعمل فى قطاع المال، وهو ما تشهد به الأزمة الحالية.

ومن الأمثلة الصارخة على ذلك ما يعرف بفضيحة العصر. ففى 1985 أقيمت فى أوماها، نبراسكا شركة عملاقة باسم «إنرون» فى قطاع الطاقة، احتلت موقعا متقدما فى أنشطة الكهرباء والغاز الطبيعى والورق ولُب الورق والاتصالات.

وظلت مجلة فورتشن تعتبرها أكثر الشركات الأمريكية إبداعا على مدى ست سنوات متعاقبة. وفى عام 2000 بلغ عدد العاملين فيها عشرين ألفا، وأعلنت إيرادات بلغت 101 بليون دولار. وفى أواخر 2001 اتضح أنها كانت تواظب على التزوير فى عرض حساباتها بحيل مبتكرة، فأعلنت إفلاسها.

وأصبحت «فضيحة إنرون» نموذجا للتزوير والفساد، وأثيرت تساؤلات عديدة حول القواعد المحاسبية التى تتبعها شركات عديدة فى الولايات المتحدة. وأعقب ذلك إغلاق شركة آرثر أندرسون للمحاسبة، بينما قام مديرو إنرون بدفع مبالغ كبيرة لتسوية القضايا العديدة التى رفعت ضدهم.

وتلجأ تلك الشركات إلى الاستحواذ على المنشآت الأصغر الواعدة، تغريها بتعويض تسترده أضعافا مضاعفة بالاستفادة مما قد تكون قد توصلت إليه من تقنيات، سواء بإيقافها لمواصلة احتكار الأسواق لمنتجاتها، أو بتطويرها بما تملكه من قدرات بحثية.

وعندما يحدث اندماج بين شركتين كبيرتين يجرى الاستغناء عن بعض أفراد الإدارة العليا، مقابل تعويضات تقدر بالملايين. ويزداد حجم الشركة، ويكون لسقوطها إذا أفلست دوى هائل فى الاقتصادات التى تعمل فيها. إن هذه العابرات التى تعتبر الذراع الرئيسية للعولمة ستظل دائما مصدر الخطر على الاقتصاد العالمى.

والمشاهد أن الأزمة الحالية روجت لفكرة أن تهبّ شركة مليئة لامتلاك أخرى يتهددها الإفلاس، بدعوى أن هذا ينقذ ما بقى منها من الضياع. وبديهى أن هذه الشركة المدمجة، فى ظل النظم السائدة، إذا أفلست كان لإفلاسها آثار مضاعفة. وكأننا بذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار.

إن المعضلة التى أتت بها العولمة هى اختلال العلاقة بين الشركة والدولة. ففى البداية كانت الدولة توفر للمنشآت محدودة الحجم المرافق التى تيسر لها عملها من حصيلة ضرائب تفرضها على أرباحها.

وعندما تضخمت الشركات كان على الدولة أن تشدد قبضتها بتشريعات مناسبة أو بإدارتها مباشرة. ولكنها عندما اجتازت الحدود ظهر السؤال: أى سلطة تلك التى تستطيع فرض رقابة صارمة على سلوك الشركات العابرة للحدود؟

لقد سعت الولايات المتحدة للتمدد وراء شركاتها كما فعلت بريطانيا فى الماضى، لتفرض هيمنة على العالم، بينما كان تدويل العملية الإنتاجية يقتضى تطويرا موازيا للنظم السياسية يحقق مشاركة الجميع فى فرض قواعد الأداء والرقابة والمحاسبة، وفقا لأبسط قواعد الديمقراطية. فإن بدا ذلك متعذرا، فلا مناص من وضح حدود لنشاط الشركات وتفرغ الولايات المتحدة لإصلاح بيتها الداخلى.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات