امــــــتلاك - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 8:09 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

امــــــتلاك

نشر فى : الجمعة 5 أغسطس 2016 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 5 أغسطس 2016 - 9:35 م
لافتات مستطيلة هائلة الحجم تخترق الفراغ الضئيل المتروك فى الشوارع والميادين وتقتطع مساحات إضافية من السماء. لافتات زرقاء يشوبها البنفسجى الداكن، درجات لونية غامضة مركبة، لا صريح فيها إلا اللون الأبيض للحروف. الحروف تشكِل كلمة واحدة كبيرة ظاهرة كظهور الشمس: «امتلاك».

فى اللافتة دعوة منقوشة بخط صغير، تحرِض المُتلقى على الاستثمار فى مصر. لا يبرز صاحب المشروع ولا تلوح هويته. لا أعرف المفعول به ولا أعرف أيضا الفاعل. ترى مَن سيمتلك ومَن سيقع عليه فِعل الامتلاك؟

الكلمة مثيرة للتساؤلات بقدر الإبهام الذى تحمله وبحجم الفضاء الذى تحتله. لا أعرف تحديدا ما وراء اللافتات، ولا تفاصيل ما تقدمه، فقط أدرك أنها تسد مجال الرؤية هنا وهناك؛ تتربع فى الشوارع الكبرى وعلى الكبارى العملاقة وأمام واجهات الأبراج الحديثة والقديمة وإن جاز القول فإنها تنافس فى عليائها ناطحات السحاب. لا أثر فيها لحديث عن تنمية أو تطوير، لا يقع هذان المفهومان فى دائرة الضوء الإعلانية ولا يلقيان شذرة اهتمام. الامتلاك هو الهدف المؤطر الواضح ولا يبدو أن ثمَة مَوقِعا للمواطن المغلوب على أمره فى هذا السياق. اللافتة ليست مُوجَهة بالطبع لهؤلاء الذى لا يسعهم تمَلُك أى شىء، إذ هم فى حقيقة الأمر ودون مبالغةٍ أو مجازٍ مملوكون لآخرين.

***

تواكب بيع الجزيرتين المصريتين تقريبا، وعلى قدر ما تسعفنى الذاكرة، مع تكاثر لافتات الامتلاك، حتى لقد هاجمتنى الشكوك والهواجس تجاه أراضٍ أخرى قد تمثل مَطمَعا وقد يمكن التصرف فيها بيعا وشراء وهبة وتخصيصا دون أن يدرى أحد. راحت الشكوك تتعمق وتتعاظم مع تأجيل نظر القضية المرفوعة ضد الدولة لمنعها من بيع الجزيرتين.

إذا كان المعنى يمثل نقرة تثير الانتباه فالشكل نقرة أخرى. الكلمة الضخمة المستقرة فى مكانها تمام الاستقرار، تحمل خطأ إملائيا فادحا يوجع ــ على ما أظن وأتمنى كل ذى عينين وحس سليم. أظن، وأقول إن أغلب الظن إثم، فلم تعد الأخطاء الإملائية تخدش الضمائر أو تؤخذ حتى فى الحُسبان. ثمَة همزةٌ أسفلَ الألف: «إمتلاك»، أتخيل مَن كتبها يرى نفسه جِهْبِذا فى اللغة وعَلامة فى بحورها، فقد أدرك ما لم يدرك غيره وفطن إلى ما خفى، ونقش الهمزة ثقة وافتخارا. همزةٌ لا يُعرَف لها أصلٌ ولا تفسيرٌ، فالألف هنا ألف وصل، لا تُكتَبُ تحتها همزةٌ ولا أعلاها، لا همزة على الإطلاق.

أقول فى نفسى كل مرة تضايقنى اللافتة لا شك أن هذا الثرى فاحش الثراء، القادر على استئجار مساحات إعلانية تُقاس بمئات الأمتار، تقتحم أبصار الرائحين والغادين، لكفيل باستقدام مُراجِعٍ لغوى ينصحه بما يُكتَبُ وما لا يصحُ أن يُكتَبَ. يقول له إن الألف فى «امتلاك» بريئة مِن الهمزاتِ. يقول له رجاء سيدى احذف الهمزة التى تُثقِل كاهلها وتجذبها إلى أسفل، رجاء لا تعيد إنتاج صورة صاحب المال الوفير، مدقع الجهل، عظيم اللامبالاة.

***

لفقراء الوطن العاجزين عن تحصيل العلم بمدارسه وجامعاته نصيبٌ فى دحرِ اللغة، ولرأس المال أيضا دورٌ ربما هو أعمق وأشدَ ضراوة. اللافتة الكبيرة بحجم نفوذ صاحبها وسطوته، يراها بطبيعة الحال عددٌ هائلٌ مِن البشر؛ مرورا على الأقدام، جلوسا فى السيارات، ركوبا للدراجات النارية ومشتقاتها، وحشرا فى الحافلات العامة والميكروباصات. يزيد استنساخ اللافتة ورفعها فى عشرات وربما مئات وآلاف الأمكنة مِن نشر الخطأ اللغوى، يلصقه بالذاكرة وإن كانت كليلة عامرة بالهموم، فالصورة مؤثرة وإن لم نعِ أثرها وندركه فى اللحظة ذاتها. كلما ازدادت الثروة وتَضَخَمَ حجمُ الإعلان، وتمَدَدَ مِن المكتوب والمرئى إلى المسموع، وغدا مُتلفزا مَصحوبا بالأنغام ومُزدانا بمشاهير الممثلين والمطربين، صارت المأساة أكبر.

فى الرؤية الثالثة بعد المائة، شعرت أن همزة القطع أضيفت عن عمد وكأنما تدعم فكرة التملك وتضيف إليها وزنا، وكأنما ألف الوصل ذات خفة، لا تقطع بالأمر ولا تكفى وحدها لترسيخ المحتوى وتأكيد الوجود. ثمَة امتلاك مادى وآخر معنوى وكلاهما حاضر فى الخطاب شكلا وموضوعا. أدركت بعد المراجعة ألا أثر لمفردة «امتلاك» فى المعاجم العربية القديمة مثل لسان العرب ومختار الصحاح، فقط هناك «مِلْك ومُلْك»، أما مفردة «امتلاك» فتظهر فى مُعجَم اللغة العربية المُعاصِرة مصدرا للفعل امتلكَ، والمعنى المذكور لها هو وضع اليد، أما المثل التوضيحى فيأتى كالتالى: «امتلاك عقار لا يملكه أحد مع نية الحصول على الحق الشَرعى لامتلاكه»، والمعنى الأصلى هو احتواء الشىء والقدرة على الاستبداد به.

***

تنويه أخير؛ لست بعالمة مِن علماء اللغة ولا أدعى امتلاك ناصيتها إنما أحاول ألا أرتكب أخطاء فادحة، احتراما لما أراه يستحق الاحترام. عانيت كثيرا وطويلا مِن سوء المراجعة والتصحيح فى النسبة العظمى مما كتبت فى الفترات الماضية وحتى اليوم. شكوت وما مِن مجيب وأظن أننى سأستمر فى الشكوى ما أمسكت بالقلم وتجرأت على النشر. تلقيت تعليقات عدد من القُراء على مقالة ماضية انتقدت فيها تدهور حالِ اللغة، قالوا إن مقالتى ذاتها مليئة بالأخطاء، وقلت ما باليدِ حيلة، أرسلها سليمة بقدر ما أستطيع فتنقلب عليلة بمنأى عنى، وتظهر فى حال المرض. أشكو مُقدما هذه المرة وأنا خَجِلة مِن اضطرارى إلى التنويه. أشكو وفى قلبى طمع، لعل الشكوى تحدث أمرا جديدا، يشيع فى النفس بعض السرور.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات