معركة شُقْحب (2-2) - محمد سليم العوا - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

معركة شُقْحب (2-2)

نشر فى : الأحد 5 سبتمبر 2010 - 10:14 ص | آخر تحديث : الأحد 5 سبتمبر 2010 - 10:14 ص

 لم يقف دور شيخ الإسلام ابن تيمية عند التشجيع على القتال والحث عليه، وإنما قام بدور مهم فى كشف شبهة عرضت لبعض العلماء والعامة حتى كادت أن تفت فى عضد المحاربين. وقصة هذه الشبهة أن بعض الناس أخذوا يتساءلون: كيف نحارب هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا كفارا؟

وهم ليسوا بغاة خارجين على الإمام لأنهم لم يكونوا فى طاعته فى أى وقت ليقال إنهم خالفوه وخرجوا عليه. والأصل أن القتال لا يكون إلا لكفار محاربين، أو لبغاة يخرجون بالسلاح على إمام المسلمين بعد أن كانوا يدينون له بالطاعة.

فرد شيخ الإسلام على أصحاب هذه الشبهة ومروجيها قائلا: «إن هؤلاء التتار من جنس الخوارج الذين خرجوا على على ومعاوية رضى الله عنهما، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين كلهم، وهم متلبسون بالمعاصى والظلم..

إذا رأيتمونى فى ذلك الجانب ــ يريد جانب التتار ــ وعلى رأسى مصحف فاقتلونى!!» فزالت، بهذا البيان الصحيح والحجة القوية، تلك الشبهة بحمد الله. وتفطن العلماء والعامة لهذا المعنى الذى أورده شيخ الإسلام، وفهموا وجه الحجة فيه، وأجمعوا أمرهم على مواجهة التتار، وقويت قلوبهم على القتال.

وخرج ابن تيمية فى جماعة من أصحابه ليشهد القتال بنفسه، وبمن معه، فرآه بعض الرعاع فظنوا أنه يخرج فرارا فقالوا له أنت منعتنا من الفرار وها أنت تهرب من البلد، فلم يرد عليهم، إعراضا عنهم، وتواضعا لله تعالى من أن يذكر للناس خروجه للقتال، وانشغالا بما هو فيه من الأمر المهم عن الكلام التافه.

وفى الميدان كانت ثقة ابن تيمية فى النصر تملأ قلبه، وتفيض على من حوله من المجاهدين والمقاتلين، وكان لسان حاله يطمئن الناس باليقين فى قوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا فى الحياة الدنيا). وجعل يحرّض السلطان وجنوده على القتال، يبشرهم بالنصر أو الشهادة فرفع بكلماته المؤثرة درجة إقبالهم على لقاء العدو ورغبتهم فى إحدى الحسنيين.

وتنبه إلى أن الناس لا يظهرون فطرا، وكأنهم يحافظون على صيامهم. فأفتاهم بالفطر، نادى بذلك فى الناس، وأفطر هو أيضا، ولم يكفه ذلك، بل أخذ يدور على الأجناد والأمراء فيأكل عند كل موضع من شىء معه فى يده (لعله تمرات أو نحوها) ليؤكد لهم أن إفطارهم فى أثناء القتال، ليتقووا عليه، أفضل من صيامهم. ثم مر، مع الخليفة المستكفى بالله والسلطان الناصر محمد بن قلاوون بين الجيوش والقواد، وجعل يقرأ آيات القتال التى تحض على الاستشهاد والثبات والصبر، وكان الخليفة يقول للناس دافعوا عن دينكم وعن حريمكم.

ووضعت الأحمال وراء صفوف المسلمين وأمر السلطان الناصر بن قلاوون غلمانه بقتل من يحاول الهرب من المعركة. ومن قبلُ كان علماء دمشق قد أفتوا بأن من ترك بلاده هربا من قتال التتار فدمه حلال. وثبت السلطان الناصر فى القتال ثباتا عظيما، وبايع الله فى هذا الموقف العظيم أمام الناس على إرادة إحدى الحسنيين: إما النصر الذى يرفع لواء الدين، وإما الشهادة فى سبيل الله. وأمر بفرسه فقُيِّد حتى لا يهرب إذا حمى الوطيس.

واحتدمت المعركة بين الفريقين واستحر القتل واستطاع التتار (المغول) أن ينزلوا بالمسلمين خسارة ضخمة فى بادئ الأمر، وقتل ثمانية من الأمراء القواد، ولكن ثبات السلطان ومن معه، والخطاب الحماسى، المملوء بآيات القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة، الذى كان يبثه ويكرره فى كل موضع شيخ الإسلام ابن تيمية، أعادا الكرَّة من جانب المسلمين على التتر فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتغير وجه المعركة،

وأصبحت الغلبة للمسلمين، حتى إذا أقبل الليل فرَّ التتار إلى أعلى جبل (غباغب) الذى يشرف على سهل شقحب، وبقوا هناك طول الليل ثم نزلوا عندما طلع النهار يريدون الفرار، بعد أن ترك المسلمون لهم ثغرة متعمدة ليمروا منها، فأحاط بهم المسلمون فقتلوا ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل، ثم لحقوا بهم يقتلون ويأسرون.

وفى يوم الاثنين رابع رمضان رجع الناس إلى دمشق، وبَشَّروا بالنصر، ودخل معهم شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه من المجاهدين فاستُقبلوا استقبالا عظيما وهنأه الناس على ما كان على يديه وبسبب ثباته على الحق من الفتح والنصر المبين.


والحمد لله رب العالمين

محمد سليم العوا الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
التعليقات