القناعة كنز لا يفنى - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 7:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القناعة كنز لا يفنى

نشر فى : الخميس 6 يناير 2011 - 11:14 ص | آخر تحديث : الخميس 6 يناير 2011 - 11:14 ص

 التقيت فى مناسبة اجتماعية عددا معتبرا من أصحاب الأسماء المعروفة فى عالم السياسة والاقتصاد والثقافة، جاءوا من دول عربية شتى، بعض هؤلاء عرفناه صوتا للسلطة فى بلاده والبعض الآخر يتعامل مع ممارساتها بموضوعية أو على الأقل وضع مسافة تسمح بأن تسمع السلطة رأيه، وفى الوقت نفسه تحميه من سخونة انفعالاتها أو الانجذاب لإغراءاتها وغواياتها.

كان واضحا منذ الدقائق الأولى أن الجماعة الموالية للسلطة تنوى التركيز على القضايا التى تتصل الآن وفورا ببقائها آمنة مطمئنة. إذا كانت القضية أمريكا، فاهتمامهم ليس بشخص أوباما أو بوش ومستقبل أمريكا بقدر ما هو دعم أمريكا بوش أو أمريكا أوباما لسياسات النظام الحاكم. بمعنى آخر يهتمون بما يطلقون عليه التدخل الحميد. أما «التدخل الخبيث» من نوع دعم الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وكشف الفساد وتشجيع أنشطة منظمات المجتمع المدنى، فمرفوض، سواء جاء من إدارة أمريكية أم إدارة ديمقراطية.

مسموح الدعم للنظام القائم وأفراده وأجهزته، ومرفوض الدعم لقوى حزبية أو تربوية أو اجتماعية إلا ما تسمح به السلطة وبشرط أن يكون لأتباعها نصيب الأسد. المثقفون من هذا الصنف، سواء كانوا من السائرين فى فلك حكومة عربية أو فى أفلاك حكومات أخرى فى روسيا والصين وكوريا الشمالية وبورما، ينتقدون التدخل الأجنبى فى أوساط المجتمع المدنى ومجتمعات الإعلام والأحزاب، ولكنهم لا يتورعون عن الاتصال بجميع القوى الاجتماعية والسياسية، وبينها قوى المعارضة، المؤثرة فى صنع السياسة الخارجية الأمريكية، ويتدخلون بالمال والصفقات والتعهد لكبار المسئولين الأمريكيين بوظائف استشارية حقيقية او شكلية بعد تركهم الخدمة. هؤلاء لا يعتبرون هذه الأساليب تدخلا فى الشئون الداخلية للولايات المتحدة.

كثيرا ما يتعرض سيل النقاش فى هذه اللقاءات، كما فى هذا اللقاء تحديدا، إلى سدود يتوقف عندها أو يفيض فى اتجاهات شتى. أصبح متوقعا مثلا أن الحديث عن المشكلات الداخلية يجلب الكآبة فضلا عن أنه كثيرا ما يؤذى مشاعر السائرين فى فلك السلطة والمتحررين على حد سواء. وبالفعل وقع فى هذا اللقاء الأخير ما يشبه «التوتر المتعاطف» عندما نوقشت الاضطرابات الاجتماعية الأخيرة فى تونس والخلافات العنقودية فى فلسطين حيث صارت الشقاقات تقسم بين فتحاويين عباسيين وفتحاويين دحلاويين فى الضفة الغربية، واتسعت مساحات النزاع بين حماسيين وجهاديين وسلفيين فى غزة، وتعددت وتداخلت التراوحات المثيرة للجدل بين شتى التيارات فى لبنان، بين ما قاله جنبلاط أمس الأول وما قاله بالأمس، بين ما يحمله سعد الحريرى من نوايا ومشاعر ورسائل من وإلى أوروبا وأمريكا وإيران والسعودية وسوريا وما يعلنه رفاقه اللبنانيون، وغير اللبنانيين.

استمع الحاضرون إلى عروض شيقة خففت من جو الكآبة، إذ كان أحد هذه العروض عرضا عن خلافات داخل الأسرة الحاكمة فى ليبيا، بخاصة بين ابن وآخر ونوقش ما جرى فى الأردن قبل الانتخابات البرلمانية الأخيرة وبعدها. ولم يغب عن الحاضرين محاولة فهم ما جرى ويجرى فى الكويت حيث تتعدد مؤشرات تلمح إلى أن تهديد سلامة بل واستمرار الكيان الكويتى يأتى هذه المرة من الداخل، وهو التهديد الذى لا تنفع فى مواجهته جيوش أمريكا والأطلسى وغيرها.

الجديد فى حوارات المتخصصين العرب أنه لم يعد ممكنا ولا جائزا تجنب الغوص فى أحوال بقية دول الجزيرة العربية. ساد فى وقت من الأوقات منطق يطالب المفكرين العرب خاصة التحديثيين منهم بألا يكونوا قساة فى الحكم على السلوك السياسى لدول الجزيرة العربية باعتبار أن التطور المتدرج المرتفق بثروة مالية هائلة سيعود حتما بالخير على حال شعوب الجزيرة ثم الأمة بأسرها.

من ناحية أخرى آلت القيادات الحاكمة فى كل دول الجزيرة العربية على نفسها إثبات «حقيقة» أن للإقليم طبيعة خاصة جذورها فى التقاليد والنظام القبلى والعلاقة الخاصة القائمة بين الحكم والدين. وكان من المتعذر فى أغلب الأحيان واللقاءات مشاركة مفكرين «مستقلين»، وهو الغياب الذى ضاعف من انعزال الفكر السياسى والاجتماعى العرب عن روافده فى بعض مجتمعات الجزيرة. حدث الشىء نفسه تقريبا مع مجتمعات مغاربية إذ عاد إلى الاختفاء أو الغياب عدد متزايد دائما من أصحاب فكر مستنير ومتحرر ومختلف من تونس وليبيا والجزائر.

وأسباب الغياب فى الجزيرة العربية كأسبابه فى شمال أفريقيا. يحدث هذا الغياب ويتفاقم فى وقت يصعب فيه اقناع شعوب الخليج وغيرها بأن ما يحدث فى الكويت مثلا لا يعنى إمكان تكرار وقوعه فى دولة خليجية أخرى وأنه شأن داخلى غير قابل للتكرار أو أن «لكل دولة خصوصيتها». سقط الادعاء بأن لكل دولة فى الخليج ظروفا خاصة وتاريخا فريدا ونظام حكم مختلفا كما سقط الادعاء بأن المغرب مغرب والمشرق مشرق لا يتشابهان ولا يجتمعان.

رأيت خلال اللقاء ارتياحا على وجوه السائرين فى فلك السلطة المصرية ولسان حالهم يقول تعليقا على الصعوبات التى تواجهها الدول الشقيقة هكذا تصبح الاضطرابات والاحتجاجات التى تشهدها مصر ظاهرة عامة لا تخص مصر وحدها، كلها لا تختلف عن الاضطرابات والاحتجاجات الناشبة فى دول أوروبية وفى أمريكا اللاتينية.

معنى ارتياحهم هو أن النظام فى مصر لم يقصر، وإن كان مقصرا أو مأزوما فمعظم الحكومات مقصرة أو مأزومة، وهذا فى حد ذاته يساوى بالنسبة لهذا الفريق من السائرين والدائرين فى الفلك حكما بالبراءة.

سمعتهم يقولون إن السلطة ليست مسئولة عن التقصير الذى يجرى اتهامها به، فقد اجبرتها المؤسسات الدولية والمستشارون الاقتصاديون الذين جاءوا مع المعونات الدولية على اتباع سياسات نقدية وأساليب اقتصادية معينة، وأجبروا الآخرين أيضا، وكلنا أطعنا، حتى روسيا فى عهد يلتسن لم تعص أوامر المانحين والمقرضين والناصحين الذين بعثت بهم حكومة واشنطن وجامعة هارفارد، وكذلك دول شرق أوروبا. نحن نفذنا وكان يجب أن ننفذ لأنهم أقنعونا بأن السياسات الاجتماعية والاشتراكية التى سرنا عليها زمنا كانت سبب تخلفنا فضلا عن الهلع الذى أصابنا مع سقوط الاتحاد السوفييتى والأفكار الاشتراكية.

قليلون بين الدائرين فى الأفلاك يوافقون على رأى طرحه متحررون منها وهو أن التجربة التى اجبرتنا على تنفيذها المؤسسات الدولية فشلت حتى بعد أن تعددت مظاهر هذا الفشل فى مدن مصر وعديد من المدن العربية والأفريقية والأوروبية. فشلت حكومتنا، وهى ليست بأى مقياس حكومة اشتراكية، ولكن فشلت أيضا حكومتان إحداهما فى مدريد على أيدى ثاباتيرو زعيم الحزب الاشتراكى الإسبانى، والأخرى فى أثينا على أيدى بابا ندريو رئيس الحزب الاشتراكى اليونانى (الباسوك) وكلاهما فرض على الشعب حالة من التقشف أشد من الحالة التى فرضها كاميرون رئيس حزب المحافظين ورئيس وزراء بريطانيا. كلهم، بدون استثناء، وحكام مصر بينهم، ينفذون الآن سياسة تخدم مصالح الأغنياء، وبعض هؤلاء كما هو معروف كان سببا مباشرا فى الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة.

لفت انتباهنا أن الانهيارات فى العلاقات الاجتماعية، كتابع من توابع عديدة للأزمة الاقتصادية العالمية عادت تظهر بوفرة وزخم ترافقها موجة من الدراسات العلمية تبحث فى موضوع السعادة. لعلها من قبيل الصدفة، إلا أنه تصادف أيضا أن أغلب هذه الدراسات انطلق من فرضية معينة هى أن انخفاض الدخول أو زيادتها ليس سببا كافيا لسعادة أقل أو أوفر لأصحابها.

يبدو أن المطلوب فى المرحلة القادمة أن يقتنع الناس أنهم يمكن أن ينعموا بالسعادة حتى لو كانت دخولهم غير كافية لتوفير الحياة الكريمة لهم وأولادهم. نموذجهم دراسة أجريت فى سويسرا توصلت إلى أن المواطن الأقل دخلا ولكن الأكثر مشاركة فى الحياة السياسية اسعد حظا من المواطن الأوفر دخلا ولكن أقل مشاركة. وفى رسالة بعث بها أحد قراء صحيفة الفاينانشيال تايمز تعليقا على مقال مطول حول هذا الموضوع كتب يعَْرف السعادة بأنها «الفرق بين الواقع الذى يعيشه الفرد وتوقعاته للمستقبل، أى بين حالته الآن والحالة التى يتوقع ان يكون عليها فى المستقبل». بمعنى آخر فإنه كلما انخفضت توقعات الفرد كلما تمتع بدرجة أعلى من السعادة.

وقد التقط أحد السائرين فى فلك السلطة هذه الفكرة معلنا اقتناعه بها، وقال إنه سوف ينصح زملاءه من القائمين على وضع برامج الحزب الحاكم بأن يحرصوا من الآن فصاعدا على عدم زيادة توقعات الناس بالنسبة للمستقبل، إذ يبدو فعلا، حسب رأيه، أن الإنسان سيرضى بحاله ويسعد به إذا عرف أن المستقبل يحمل ما هو اسوأ، أو على الأقل لا يحمل ما هو أحسن.

مرة أخرى نعود إلى قناعات الأقدمين ومنها أن «القناعة كنز لا يفنى».

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي