ثورة تتمهل وسط صعوبات هائلة - جميل مطر - بوابة الشروق
الثلاثاء 9 ديسمبر 2025 10:48 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

كمشجع زملكاوي.. برأيك في الأنسب للإدارة الفنية للفريق؟

ثورة تتمهل وسط صعوبات هائلة

نشر فى : الإثنين 6 فبراير 2012 - 9:15 ص | آخر تحديث : الإثنين 6 فبراير 2012 - 9:15 ص

دخلت قصور حكم كثيرة، بعضها فى عواصم عربية، وأكثرها فى عواصم أجنبية مثل بكين ونيودلهى وروما وتاناناريف فى مقديشيو وأوتاوا فى كندا ومورونى فى جزر القمر ودار السلام فى تنزانيا وبيونس أيرس فى الأرجنتين وسنتياجو فى شيلى وكثير غيرها. لكل قصر طابعه الخاص وطرازه المتميز، ولكن تكاد قصور الخليج تتطابق رحابة واتساعا بينما تحتفظ قصور مصر، أو أغلبها، بهندستها الأوروبية، وتنفرد قصور المغرب بطابع لا يتكرر وتوحى برخاء بلا حدود ونكهة خاصة ورائحة عطرة.

 

قد تكون قصور الحكم فى تونس الأقل رفاهية بين قصور العرب أجمعين، ولكنها تبقى الأقرب إلى القلب والأحب إلى العين، فالألوان متناسقة ومريحة والزخرفة شرقية ناعمة والأثاث بنوعيه الإفرنجى والعربى تقليدى. تكاد قصور تونس تتميز بخاصية لا تتوافر فى قصور كثيرة فى أوروبا وأمريكا الجنوبية وإن وجدت فى آسيا، وهى المسافات الطويلة التى يتعين على الضيف أو الزائر أن يقطعها مشيا على قدميه منذ أن يغادر السيارة التى أقلته إلى مدخل القصر وحتى يصل إلى باب القاعة التى يتعين عليه أن ينتظر فيها لحين دخول الرئيس أو الملك أو المسئول الكبير.

 

●●●

 

مشينا على الأقدام مسافة طويلة حتى وصلنا إلى مكتب رئيس البرلمان فى قصر باردو الواقع على مدخل الحى العربى فى تونس العاصمة. ومشينا مسافة أطول قليلا فى اليوم التالى فى قصر قرطاج لنصل إلى القاعة التى انتظرنا فيها الرئيس المؤقت للجمهورية التونسية. وفى الحالتين، لم تتح لى الفرصة للاستفسار عن الغرض وراء هذه المسافة التى يتعين أن يمشيها على قدميه الزائر لقصر من قصور الحكم فى عالمنا العربى، قبل أن يلتقى مضيفه صاحب المقام الرفيع. أستطيع التخمين.

 

تطلعت بشغف لمقابلة رئيس البرلمان التونسى الجديد، فهو الأول من خارج النخبة الحاكمة الذى يجلس على مقعد كان مخصصا لشخصية كبيرة يختارها رئيس الدولة، بصفته رئيس الحزب الحاكم، لتتولى رئاسة برلمان صورى. الانتخابات فى تونس كانت تجرى، كما كانت تجرى فى مصر، وفقا لقائمة تعدها وزارة الداخلية يصدق عليها رئيس الدولة وتتضمن بعض شخصيات تنتمى لأحزاب معارضة تمولها وتحركها أجهزة الأمن.

 

الرئيس الحالى للبرلمان المؤقت هو رئيس حزب صغير دخل فى تحالف مع حزب كان مقدرا له أن يحصل على أكبر عدد من الأصوات، وهو الحزب الممثل لحركة النهضة الإسلامية. جرت الانتخابات بحرية كاملة وفى أجواء لم يعش التونسيون فى مثلها منذ الاستقلال، وتحت رقابة دولية وإقليمية شهدت بنظافتها وطهارتها. ومع ذلك اعترف رئيس البرلمان المكلف بوضع دستور دائم للبلاد، بأن انتخابه لمنصب الرئيس جاء بترشيح حزب النهضة الإسلامى. بمعنى آخر، وحسب تعليق صديق ليبرالى التوجه، مازال الحزب الأقوى يمارس النفوذ الأكبر ويختار القيادات البرلمانية.

 

مشيت ومشيت عبر الساحات والدهاليز متذكرا زيارة سابقة قمت بها للمكان قبل سنوات عديدة ومنبهرا بالمشهد الذى لم يتغير.

 

تحيط بالقصر أسوار غير شاهقة الارتفاع، وساحات بدون سقوف. أما الردهات المؤدية إلى زنقات والزنقات الموصلة إلى قاعات الاجتماع والاستقبال، فجميعها بدون جدران وإن اصطفت على أحد جانبيها أعمدة. مشينا ومشت معنا أصوات المتظاهرات والمعتصمات خارج الأسوار. قيل لنا إن المظاهرات انطلقت فى الصباح الباكر احتجاجا على «نوايا» تسربت من دوائر الحكم، أغلبها يتعلق بمشروعات قوانين تقضى بمعاملة النساء حسب مبادئ وقواعد مختلفة عما تعودت عليه البلاد منذ الاستقلال.

 

مطالبهن ترددت داخل القاعة. لم يكن هناك شك فى أن مشكلة النقاب تتصدر قائمة المشكلات التى تواجه برلمان الثورة التونسية وحكومتها. يختلف الثوار على الأولوية للنقاب أم لقمة العيش. وتصر غالبية النساء على أن لقمة العيش ليست مسئولية الذكور وحدهم أو حكرا عليهم، هى أيضا من حق الصغار والنساء، ثم ماذا يمنع أن يكون فى البيت لقمتا عيش وليس واحدة، لقمة يسعى وراءها الرجل، ولقمة تعمل من أجلها المرأة.

 

النقاش الدائر حول النقاب، تحول فى جامعة منوبة فى محافظة بنزرت فى أقصى شمال البلاد إلى معركة ساخنة ومشحونة بالرموز. انقسم الثوار. قال بعضهم إنه كان يتعين على رئيس الجامعة أن يتفاوض مع نشطاء التيارات الإسلامية فى الجامعة قبل أن يقرر هو والأساتذة تحريم دخول المنتقبات إلى قاعات الدرس. قال بعض آخر، إن التساهل فى حماية حرمات الجامعة سيؤدى فى النهاية إلى انهيار التعليم وسقوط هيبة المعلمين وتوقف التنمية. سئل رئيس البرلمان عن مصير الجدل الناشب فى معظم أنحاء تونس حول قضايا المرأة وبخاصة مسألة النقاب فقال إن قضية الحجاب تحديدا صارت تمثل تهديدا لاستقرار الحكم وعمل المجلس التأسيسى، أى البرلمان، بينما صرح الشيخ راشد الغنوشى الزعيم الروحى لحركة النهضة الذى تصادف وجوده فى دافوس بسويسرا بقوله: «نكون من المنافقين لو استمر اهتمامنا باللباس على هذا النحو».

 

يعرف مصطفى بن جعفر رئيس البرلمان، كما يعرف الشيخ الغنوشى قائد حركة النهضة، أن التيارات الدينية المتطرفة، وبينها التيار السلفى، يدفع الثورة نحو اهتمامات دينية «شكلية» تثير الانقسام وتوسع الشرخ داخل المجتمع. وربما لهذا السبب رفضت جميع الأحزاب السماح للسلفيين بتشكيل حزب سياسى.

 

لا يخفى مسئولون تونسيون خشيتهم من وقوع انتكاسة تطيح بمكاسب المرأة فى تونس. يعرفون أن المناطق الريفية، بخاصة فى جنوب تونس والأقاليم الداخلية حيث يعم الفقر وتتدنى الدخول إلى قيعان غير إنسانية، وحيث شب الشاب بوعزيزى وجاع وتعذب حتى انتحر حرقا، يشتد الضغط على النظام السياسى للسماح بارتداء النقاب فى الأماكن العامة. هناك بطبيعة الحال بين التيارات السياسية، بخاصة الدينية، من يشجع على زيادة الاهتمام بموضوع النقاب لتحقيق أغراض حزبية، بينما الأمر الذى يستدعى تركيز الاهتمام عليه هو التنمية الاقتصادية وبوجه خاص استعادة مكانة تونس فى عالم السياحة الأوروبية، باعتبار السياحة المورد الأساسى والضرورى للحياة الاقتصادية فى تونس.

 

●●●

 

فتحنا مع السيد بن جعفر موضوع المشكلات المحيطة بعملية إعداد الدستور، فاجأنا بأن قدم اعتذارا نيابة عن جميع التيارات السياسية للتأخير فى إعداد الدستور، ووعد بأن تشهد الأسابيع القليلة المقبلة انطلاق عملية الإعداد. أما التأخير فيعود، حسب رأيه، إلى ضغط المشكلات الاجتماعية والاقتصادية بخاصة مشكلات بطالة الشباب وسوء حالة الأمن الداخلى والانقسامات داخل الأحزاب والتوتر فى العلاقات بين أحزاب المعارضة. وفى إجابة قصيرة عن سؤال قال إنه يعتقد أن الدستور الجديد قد يأخذ بالتجربة الفرنسية، وهى التجربة التى تجمع بين النظامين الرئاسى والبرلمانى. إلا أن نوابا آخرين اتصلت بهم أعربوا عن الشك فى أن يتوصل البرلمان كلجنة تأسيسية فى وقت قصير إلى اتفاق حول هذه المسألة.

 

أراد رئيس البرلمان أن يشيع فى نهاية اللقاء جو التفاؤل فاستعان بأمثلة من تجارب دول أخرى. تحدث عن أقوال رددها كثيرا النقابى والسياسى البولندى الشهير ليش فاوينسا خلال زياراته المتكررة لتونس خلال المراحل المبكرة للثورة، وجاء فيها أن بولندا لم تتوصل إلى دستورها الحالى إلا بعد أن خضع لعشرة استفتاءات متعاقبة.

 

●●●

 

يبدو واضحا أنه تنتظرنا فى مصر وتنتظرهم فى تونس أيام صعبة عديدة. لدينا مشكلاتنا ولديهم مشكلاتهم، والاختلافات بيننا، كما اكتشفت خلال هذه الرحلة، ليست كثيرة. هنا وهناك ثورة لم تكتمل. هنا وهناك تتفاقم الأزمة الاقتصادية، وتتعقد قضية البطالة، ويتسع الشرخ بين التيارات الدينية والتوجهات «المدنية أوالعلمانية»، وتنقرض مكاسب المرأة وحقوقها فى المساواة. هنا وهناك فشلت الأحزاب التقليدية والثورية على حد سواء فى دمج الشباب فى عملية إعادة البناء.

 

هنا وليس هناك لم تصل القوى السياسية والمجتمعية إلى حل لقضية موقع المؤسسة العسكرية فى دولة ما بعد الثورة. هناك وليس هنا ظهرت مشكلة الاشتباك بين الثوار العائدين من بلاد الهجرة المطالبين بحقهم فى قيادة الثورة والدولة، والثوار من أهل الداخل الذين عاشوا فى ظل القمع وقاوموا الطغيان... وانتصروا.

 

ودعنا بن جعفر وأعضاء مكتبه وخرجنا إلى ساحات القصر ومنها إلى ساحة القصبة حيث تجمع عدد من النساء المحتجات على تدهور أحوال الأمن. ومن حى الحكومة والأسواق العربية عدنا إلى الضاحية لنهتم بقضايا أخرى ونستعد لليوم التالى، اليوم الذى حدده رئيس الجمهورية لنلتقى به ونسمع منه روايته عن رحلته إلى منصب الرئاسة ورأيه فى حال البلاد والأمة.

 

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي