السكِّيت - يوسف زيدان - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 9:38 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السكِّيت

نشر فى : الإثنين 6 أبريل 2009 - 9:38 ص | آخر تحديث : الإثنين 6 أبريل 2009 - 9:38 ص

 كثيرا ما تطوف بذهنى ذكرى العلامة اللغوى الشهير (السكِّيت)، وهى ذكرى مؤلمة كما سنرى بعد قليل. وقد أفاض المؤرِّخون فى الكلام عن مكانة هذا الرجل، وعن دوره الكبير فى تطوير اللغة العربية. ونعتوه بأجمل الصفات، فهو عندهم: شيخ العربية، النحوى، المؤدِّب، صاحب كتاب إصلاح المنطق، أبو يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بالسكيت، أو ابن السكيت..

وكان يُقال عنه قديما: لم يأت أحدٌ بعد ابن الأعرابى، أعلم باللغة العربية من ابن السكيت! وكان يقال عن كتابه الشهير فى اللغة: ما عبر على جسر بغداد كتابٌ، أهم من إصلاح المنطق.

ولم يكن (إصلاح المنطق) هو الكتاب الوحيد الذى تركه لنا هذا العلامة البارع، ولكنه أشهرها وأهمها على الإطلاق. وله من ورائه عدة كتب ورسائل فى اللغة، منها: معانى الشعر، صفة السرج واللجام، المقصور والممدود، الأجناس، سرقات الشعراء، غريب الإبل، الطير، الحشرات، الأمثال.. وله شروح على دواوين: زهير بن أبى سُلمى، الأخطل، طرفة بن العبد، أبى نواس، الأعشى، عروة بن الورد.. وغيرهم.

ومما يشهد بأهمية كتاب (إصلاح المنطق) تلك الشروح الشهيرة له، والنسخ الخطية الكثيرة منه، والطبعات المتعدِّدة، والمخطوطات الألفية العديدة التى لا تزال باقية إلى اليوم، مع أنها كُتبت قبل ألف عام! إذ اهتم العلماء بشرح (الإصلاح) وعنى النُّسَّاخُ بنقله، وتناقل الناس تلك النسخ، منذ كان المؤلف حيا وحتى بعد وفاته المفجعة سنة 244 هجرية (الموافقة لسنة 858 ميلادية).

ومع أن هذا الرجل الجليل قد عُرف بالسكِّيت، حسبما قال المؤرِّخون، لكثرة صمته وطول سكوته؛ إلا أن كثيرين يسمونه (ابن السكيت) بطريق الخطأ، فوالده الذى كان معلِّما للصبيان فى بلدة صغيرة، لم يكن معروفا ولم يشتهر بصمته، ولذلك فإن قولهم (يعقوب بن إسحاق بن السكيت) إنما يقع بطريق الخطأ والخلط بين الرجل المشهور وأبيه المغمور.. المهم أن كثرة تطواف (السكيت) بخاطرى، يرجع إلى كثرة تأملى فى نهايته، التى كانت على النحو الآتى:

كان السكِّيتُ معلِّما (مؤدِّبا) لأبناء الأمراء والخلفاء، وقد دعاه الخليفة المتوكل ليكون معلما لابنه المعتز، الذى صار بعد حين خليفة للمسلمين.. وظل السكيت يقوم بهذا العمل على أفضل وجه، حتى كان عمره ثمانية وخمسين عاما. وكان يُعرف عنه محبته لآل البيت (ذرية الإمام علىٍّ من فاطمة) بينما كان الخليفة المتوكل يكرههم بشدة! وبطبيعة الحال، كان للسكيت حُسَّادٌ وأعداء، فسعوا ضده عند الخليفة، وأبلغوه بأن السكيت يحب هؤلاء الذين لا يحبهم الخليفة.. والحكام فى ثقافتنا القديمة والجديدة، يحبون أن يحب الناس ما يحبونه هم، ويكرهوا ما يكرهونه !

فالحاكم المطلق اليد، يحتقر فى قرارة نفسه الناس، ولا يرى لهم الحق فى مخالفته، حتى فيما يتعلق بالحب والكراهية. المهم، أن الوشايات لما كثرت، أراد الخليفة المتوكل أن يختبر ولاء (السكيت) فسأله فى جلسة سمر: ابناى هذان، المعتز والمتوكل، أحبُّ إليك أم الحسن والحسين ابنا علىِّ بن أبى طالب؟ فقال السكيت: الحسن والحسين.. وفى رواية أخرى، فيها شىء من التزيُّد، قال: والله إن قنبر خادم الإمام علىٍّ، خيرٌ منك ومن ابنيك!

وهنا وقعت الواقعة، وقامت للسكيت قيامة موته المفجع.. فقد أمر الخليفة المتوكل جنده، بأن يسلوا لسان السكيت من قفاه، ففعلوا ذلك. وألقوه على الأرض، وداسوا بطنه بالخيل حتى انفزر بطنه.. وعلى هذا النحو، مات العلامة اللغوى الشهير. غير أن القصة لم تتوقف بشاعتها عند هذا الحد، وإنما اختتمها الخليفة المتوكل بأمرٍ أشد إيلاما وتحقيرا.. ففى اليوم التالى، بعث المتوكل لابن (السكيت) بصُرة مالٍ فيها عشرة آلاف درهم، وقال: هذه دية القتيل!

عشرة آلاف درهم، أظنها تساوى اليوم ما يقارب ألف دولار أمريكى.. ألف دولار، هى (ثمن) حياة واحد من الذين أثروا ثقافتنا، وطوَّروا لغتنا، وحافظوا على شخصية الجماعة (العربية) التى ننتمى إليها. فلله الأمر من قبل ومن بعد، وهو أرحم الراحمين.

يوسف زيدان كاتب وروائي مصري
التعليقات