القيم المصرية والثقافة الفرعية - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 11:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القيم المصرية والثقافة الفرعية

نشر فى : الجمعة 6 مايو 2016 - 9:50 م | آخر تحديث : الجمعة 6 مايو 2016 - 9:50 م
لكل بلد قيمه التى يعيش عليها وهى لا تختلف عن القيم الإنسانية العامة المتحضرة. ومصر التى يمتد بها تاريخها لأكثر من سبعة آلاف عام كانت دولة متحضرة تضم بشرا متحضرين قبل الزمان بزمان؛ حيث كان العالم من حولها يعيش حياة الغاب. لقد كانت أول دولة لها قوانينها وقيمها ونظامها وكل من حاربوها فى ذلك الزمن القديم كانوا من الرعاة الرُحَّل أو الرعاع... إلخ. وعندما دخلت المسيحية إلى مصر تأثرت بالحضارة الفرعونية وأصبحت مسيحية مصرية سواء فى شكل معابدها أو القيم الإنسانية المعيشة، ونفس الأمر حدث عندما دخل الإسلام مصر وأصبح إسلاما حضاريا إنسانيا.

اتفق علماء الاجتماع على أن المجتمع الصحى هو المجتمع واضح القيم الذى يضع قيما عُليا أمامه ويعيشها، وتكون بمثابة فلسفة عامة لا تحتاج إلى مؤسسات دينية تقوم بحمايتها ــ رغم أنها تشجع هذه القيم، ولا إلى ضباط أمن يضبطون من يخالفها؛ ذلك لأنها نابعة من داخل معظم مواطنى هذه الدولة بطريقة طبيعية. وهذا الشعب يضع منظومة أخلاقية فوقية يُعليها ويعيش عليها ويتعامل على أساسها وهى: الوعى (العقل) ــ السعادة ــ الحب ــ القوة ــ السماحة ــ الصدق ــ الأمانة... إلخ. وهناك منظومة أخلاقية تحتية يرفضها ولا يعيشها وهى: اللاوعى (تغييب العقل) ــ الشقاء ــ الكراهية ــ الضعف ــ الكذب ــ رفض الآخر المختلف.... إلخ. ولكن عندما تتعرض دولة مثل مصر ــ لها قيمها العُليا منذ عهد الفراعنة ــ إلى هزائم عسكرية وفقر اقتصادى وانهيار لمنظومة المعرفة واختلاط بحضارات أخرى ــ منها ما هو أقل منها معرفة وتحضر ــ بسبب احتياجها للمال من ناحية، وبحضارات تبدو أرقى لكنها تختلف معها فى القيم الإنسانية بسبب احتياجها للمعونة الإنسانية والتقنية.

***

من الناحية الأخرى تهتز القيم فى رءوس شعبها ــ خاصة شبابها؛ حيث إن ثقافته الأصيلة تعرضت لثقافات فرعية متعددة فاختلطت عليه الأمور واختلط ما هو فوق من قيم كان يجلَّها ويقدَّرها بما هو تحت والتى كان يرفضها. وهذا الأمر لا يتم بهذه البساطة والوضوح؛ ولكن ما يحدث هو أن القيم التحتية ــ اللاوعى والكراهية والشقاء...إلخ ــ يصوغها الشعب بتعبيرات تبدو متميزة وسامية ظاهريا وعفنة ومدمرة باطنيا. وسأذكر لكم ثلاثة أمثلة فمثلا قيمة الحب وهى إحدى القيم العليا المطلقة التى تعيش عليها الشعوب المتحضرة، أى أن الإنسان لا يشترط شرطا معينا لكى يحب الآخر (الذى ليس هو أنا) على جميع المستويات، لذلك فحبى لهذا الإنسان لكونه إنسانا؛ ذلك الذى يشاركنى الوطن أو لا يشاركنى، والذى يشاركنى الدين أو المذهب أو لا يشاركنى، والغنى والفقير والمتعلم والجاهل... إلخ. وقد كان هذا واضحا منذ الحضارة الفرعونية ومتأصلا فى الشعب المصرى.

عندما قامت الثقافات الفرعية بغزو ثقافتنا الأصلية بدأنا نسمع تعبيرا لمن يختلف معنا فى الدين «إنى أكرهك فى الله»، وهذه الجملة متناقضة لأن الله يحب كل خليقته بدون استثناء حتى أولئك الذين لا يعترفون بوجوده، ثم إن هذه الجملة فيها احتكار لله وللحقيقة المطلقة وكأن الله غير قادر على الدفاع عن نفسه. وهكذا تبدو الجملة غريبة التكوين فضلا عن أنها دخيلة على حضارتنا التى تجمع جميع الأطياف فى منظومة حب منذ الأزل. وفى المنظومة العليا أيضا نجد مفهوم القوة من أكثر المفاهيم التى حدث بها خلط فى الخبرة البشرية؛ فلقد ارتبطت القوة بالسلاح والحرب والتدمير؛ فالذى يملك القوة بهذا المعنى فإنه يملكها لإفناء نفسه وإفناء عالمه كما حدث فى هيروشيما. ونحن نرى أكبر استخدام للقوة بهذا المعنى فى شرقنا الأوسط؛ فالغالبية العظمى من الضحايا من الشعوب المغلوبة على أمرها، ورأينا ملايين المهاجرين الذين يعيشون فى معسكرات بعد تركهم بيوتهم ومدارسهم وحياتهم، ومن يموتون فى البحر هربا من القتل فيموتون غرقا ونجد بلادا تستنزف معظم مواردها لتتخلص من رؤساء دول أخرى لأسباب شخصية.

***

بالبحث فى ثقافتنا الأصلية منذ الفراعنة نجد أنهم سخَّروا قوتهم للإبداع وسعادة الإنسان وهنا تكمن القوة الحقيقية؛ لأنها ارتبطت بالإبداع والفن ورفاهية الإنسان. وهكذا ظهرت حضارات عظمى جاءت متأخرة عن حضارتنا بآلاف السنين؛ لأنهم فهموا معنى القوة الحقيقية بعد حربين عالميتين قُتل فيها الملايين، وهكذا بنوا أنفسهم وشعوبهم على العلم والإبداع والتقدم. أما نحن فندمر أنفسنا ومن حولنا ظنا منا أنها القوة الحقيقية وهذا تأثير الثقافة الفرعية التى اختلطت بثقافتنا الأصلية. وبعد اجتياز عدة حروب وما ترتب عليها من انهيار اقتصادى وتعليمى؛ بدأنا نقف مع أنفسنا نبحث عن القوة الحقيقية لأجل مستقبل أفضل للأجيال المقبلة. أما الطامة الكبرى فى تأثير الثقافة الفرعية فقد جاءت فى قيمة الوعى أو العقل؛ فالوعى فى حضارتنا الفرعونية يأخذ الأولوية الأولى، وفى مصر الحديثة بدأ محمد على تحقيق هذا التصور مستلهما من التاريخ المصرى القديم وعلى مدى الأجيال قيمة العقل. وهكذا أخذ هذا الرجل ينبه على أهمية التعليم والتحضر والاتصال بأوروبا؛ وقام بإرسال المصريين النابهين إلى فرنسا وتبعه فى ذلك سعيد وإسماعيل وظهر رفاعة الطهطاوى والإمام محمد عبده وبعدهما عباس محمود العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ... إلخ.

***

وقامت حركة ضخمة تضع الوعى فى المرتبة الأولى مع حرية الفكر والاجتهاد فى مكان أعلى، إلا أنه بسبب الحروب وتضارب السياسات والدكتاتورية والفقر بدأت فكرة الوعى تنحدر إلى أسفل وترتفع قيمة اللاوعى إلى أعلى. وبظهور طبقات غنية من الحرفيين غير المتعلمين وأولئك الذين عادوا من الخليج بثقافات فرعية بدأت تظهر فى تصور وخيال الإنسان المصرى صورة جديدة للوعى واللاوعى؛ فأصبح اللاوعى له اليد العليا وهنا ظهرت مصطلحات تعبر عن هذه التصورات مثل «عامل دماغ» والمقصود هنا إنسان يشرب الحشيش أو يشم الهيروين فيُحَلِّق فى الفضاء ــ والدماغ هنا هو العقل. وهكذا ارتفع اللاوعى وصار هو الدماغ الحقيقى أو العقل المطلوب؛ فالإنسان يحتاج إلى أن يغيب عن الوعى ــ يعمل دماغ ــ كشرط للإبداع، فى الوقت ذاته أُطلق على الميكانيكى وسائق السيارة «مهندس» و«دكتور»، ويقال «دكتور» بقصد السخرية الشديدة من العلماء.

وظهرت أفلام ومسلسلات تسخر من العلماء وهكذا نزل الوعى وأصبح قيمة تحتية ولم يعد الاحترام لصاحب الدرجة العلمية أو لفكرة قيمة. وهنا عادت الأصولية الدينية بقوة وارتفعت نغمة التكفير ومحاكمة الأفكار سواء فى المسيحية أو الإسلام. ولنا فى قانون ازدراء الأديان المثل الأعلى فى غياب الوعى عند مُنَظِّرى القوانين الذين كانوا دائما ما يدافعون بقوانينهم عن الحريات والإبداع. وانتشرت الحركات الدينية التى تدعو إلى انتظار المعجزات والخوارق وإلغاء العقل والوعى عند الإنسان؛ فالتحصن بالماضى إضافة إلى الالتجاء إلى الغيبيات أعلى من شأن اللاوعى وجعل له اليد العليا ووضعه فى المنظومة العليا فى تصورات الإنسان المصرى فى الحقبة الأخيرة، وكل هذا بسبب الثقافات الفرعية التى أصابت الثقافة المصرية القديمة فى مقتل.

فهل هناك من مخرج لنا من هذا المأزق القاتل لكل إبداع وتقدم؟!
إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات