فى المحطات والمراحل الوطنية الفارقة، يكون أمام ممارس السياسة طيف من الاختيارات الأساسية التى عادة ما يذهب باتجاه أحدها ويتحمل على مستويى الصالح العام والحسابات الشخصية كلفته بالإيجاب والسلب. ويسهل اليوم فى مصر إسقاط طيف الاختيارات هذا على واقعنا السياسى وأدوار طائفة ممارسى السياسة وتشريحها استنادا إليه.
الاختيار الأول ــ الموقف الأخلاقى القاطع: والسياسى هنا يخرج على الرأى العام فى سياق ثورة أو حراك شعبى أو أزمة حادة أو قرار وطنى مؤثر متبنيا موقفا محددا تأييدا أو رفضا، وشارحا لمسوغاته دون وقوع فى شرك التبرير. سياسيو الموقف القاطع لا ينتظرون تبلور توجهات وتفضيلات الرأى العام كى يعزفوا على موجات الأغلبية بهدف استمالتها (أو الشعبوية كما نسميها فى العلوم السياسية)، ولا يخشون تداعيات المواقف القاطعة على حظوظهم الانتخابية أو على حدود القبول العام لهم.
خريطتهم هى الوطن والصالح العام (كما يرونه) وليس الدوائر الانتخابية والمصالح الحزبية، وإدراكهم لدورهم يستند إلى الدفاع عن المبادئ والأفكار دون مساومة والسعى للتأثير فى مجريات الأحداث وفى الرأى العام وليس الركض وراء توجهاته. سياسيو الموقف القاطع عادة ما ينهون الثورة أو الحراك الشعبى أو الأزمة أو القرار الوطنى المؤثر محل النظر إما بنجاح شعبى كاسح أو بخسائر فادحة، إلا أن نجاحهم سرعان ما يصطدم بمحطات فارقة جديدة قد يبتعدون بها عن توجهات الرأى العام وخسائرهم لا تلغى مكانهم فى المخيلة الجماعية للمواطنات وللمواطنين كأصحاب موقف ومبدأ.
الاختيار الثانى ــ الانتظار واللاموقف: والسياسى هنا يقع فريسة لثنائية الرغبة فى الدفاع عن المبادئ من جهة والخوف من الخسائر الانتخابية والشعبية من جهة أخرى ومن ثم يعمد إلى الانتظار إلى أن تتضح احتمالات تطور الثورة أو الحراك الشعبى أو الأزمة محل النظر أو يتخذ بالفعل القرار الوطنى المؤثر.
كثيرا ما يعتقد سياسيو الانتظار أن نجاتهم تكمن فى الغياب والابتعاد عن تبنى مواقف قاطعة وشراء بعض الوقت لكى لا يضطروا إما للتخلى عن مبادئهم تحت ضغط توجهات الرأى العام أو لإغضاب قطاعات شعبية واسعة حال اصطدام مبادئهم ومواقفهم بالتوجهات الغالبة. سياسيو الانتظار يعيشون (فى السياسة) طويلا ويواصلون العمل فى ظروف شديدة الاختلاف والتناقض، وهم على هذا المستوى أكثر نجاحا من سياسيى الموقف القاطع. إلا أن معضلتهم الكبرى تتمثل فى أن الرأى العام سرعان ما يدرك استحالة التعويل عليهم فى المحطات والمراحل الفارقة ويصنفهم من ثم بعيدا عن الصفوف الأمامية للسياسيين، ويضعهم فى خانات سياسيى الدوائر الانتخابية وعموم ممارسى السياسة ولا ينتظر منهم الاضطلاع بأدوار وطنية مؤثرة.
الاختيار الثالث ــ غريزة البقاء والمصالح الشخصية: والسياسى هنا يتعامل مع الثورة أو الحراك الشعبى أو الأزمة أو القرار الوطنى المؤثر بمسطرة وحيدة، مسطرة البقاء فى المنصب والاستمرار فى الدور والدفاع عن المصالح الشخصية. وأنماط فعل سياسيى غريزة البقاء واضحة ومباشرة؛ التحايل، التلون، ألعاب الهواء، القفز من مراكب السلطة أو المعارضة حين توشك على الغرق، الحركة السريعة باتجاه التوجهات والتفضيلات الغالبة لدى الرأى العام بهدف استمالته، النزوع إلى التأييد السريع أو الرفض السريع وبعنف لفظى قد يصل (كما فى حالتنا المصرية اليوم) إلى عنف مادى، وغيرها.
سياسيو غريزة البقاء، وهم يشكلون الشريحة الأعرض بين ممارسى السياسة أو قاعدة الهرم وترتبط بأنماط فعلهم أغلبية التوصيفات السلبية للسياسة، لا يقفون طويلا أمام المبادئ والأفكار والآراء ولديهم قابلية عالية للدفاع وبصوت مرتفع عن متناقضات فى غضون فترات زمنية قصيرة وللتقلب بين التأييد والرفض دون إعطاء الرأى العام مسوغات للفهم وللتفسير العقلانى. سياسيو غريزة البقاء يدفعون بدولهم ومجتمعاتهم إلى مهالك وانهيارات إن هم سيطروا على الحياة السياسية ويظلون عبئا على الممارسة الرشيدة والعقلانية للسياسة من مواقع الأقلية.