فقه غائب وإفتاء خائب (2-2) - جمال قطب - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:49 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فقه غائب وإفتاء خائب (2-2)

نشر فى : الجمعة 6 سبتمبر 2013 - 9:10 ص | آخر تحديث : الجمعة 6 سبتمبر 2013 - 9:10 ص

(1)

كرر القرآن الكريم أنه «قرآن عربى» قاصدا إعلام الكافة بقيمة «البعد اللغوى» فى التعامل مع القرآن، لذلك سنبدأ بطواف لغوى حول مصطلح «فتوى»، فالفعل (أفتى ــ يفتى) حبة فى عنقود الجذر اللغوى «الفاء والتاء وما يثلثهما»، وحبات هذا العنقود المجاورة للفتوى تتساوق جميعها فى بيان القدر المشترك لمعنى كل صيغة منها، فنحن أمام أفعال: (فتئ ــ فتت ــ فتخ ــ فتر ــ فتش/ فتق ــ فتك ــ فتن/ فتح ــ فتل) وكل هذه الأفعال يتكامل مع أخيه فى بيان معناه. فـ«الفتوى» يلزمها سرعة التصدى والاقتراب (ما فتئ)، ويلزمها عدم التراخى (الفتور) كما يلزمها القوة وعدم الاستضعاف (فتخ).

وأيضا فـ«القائم بالفتوى» عليه أن يحذر إحداث (فتق) بين أبناء المجتمع، أو أن (يفتك) بالأمة، وكذلك يشتد حذره أن يسبب (فتنة) تجعل الناس فى حيرة لا يهتدون.

ومن بقية جذور المادة، فإن المفتى (يفتت) المسألة ثم (يفتح) جميع الذرائع المحققة لخير الأمة، ثم (يفتل) كل الاستنتاجات التى تصحح الواقع فى ضوء الشرع.

وبعد هذه السياحة اللغوية نذكر أنفسنا أن الأصل فى تنظيم الدولة هو المؤسسية والموضوعية، فوظيفة الإفتاء العامة لا يمكن تركها لشخص أو لمذهب أو لاتجاه، فقضايا الأمة تقوم على منظومة متراصة من القيم والمبادئ فى متوالية دائرية (كأسنان الترس) إذا فقدت سنّة من الترس تعطلت حركة الدائرة وتعرض جميع أعضائها للهلاك، ففتاوى الأمة فى أحد أدوارها هى صيانة لحركة المجتمع ووقاية للأمة من الانزلاق إلى فراغ التفاتى. فالفتاوى العامة لا تقبل إلا من مؤسسة قومية مستقلة تضم خلاصة المتخصصين والمتمتعين بثقة الناس حتى يستمع الناس لما يصدر عنها ويتمسكون به.

(2)

أما إذا غابت المؤسسة أو تم تغييبها أو سكتت فالعواقب غير مأمونة، حيث إن الإفتاء الفردى كثيرا ما يصاب بالشخصنة والعصبية والعشوائية، الأمر الذى يقلب الوضع رأسا على عقب فتتحول الفتوى من مصدر للسكينة والاطمئنان إلى سبب للحيرة والاستقطاب وصراع تذهب فيه ريح الأمة، تلك الحالة التى سماها أ.د. سيف الدين عبدالفتاح «حالة التفاتى» أى تصادم الفتاوى ومصارعتها بعضها البعض. ولشديد الأسف فإن الأمة قد استيقظت ذات صباح لتندب حظها على مصابها فى مؤسسة الدعوة الكبرى من غياب مؤسسى وحضور مشتت لبعض رموزها.

فواحد منهم ينفرد بفتواه التى توصيفا لما حدث بأنه ضرر، ولكنه فى تصوره أخف الضررين ــ رغم ما تسبب فيه من إراقة دماء. وآخر من أعضاء نفس الهيئة رغم تجاوزه السبعين من العمر نازال يتعصب لرؤيته الخاصة الصادرة عن أحادية النظر، فيريد أن يجعلها دينا عاما لكل الناس. وثالث قد شارف على السبعين احترف التطوع بغير المطلوب منه فيضبط متلبسا بـ«التضاد مع نفسه» إذ عارض خروج الناس فى 25 يناير 2011 رغم سوءات ثلاثين سنة، ثم جاء فى يوليو 2013 مزكيا ومتعجلا خروج الناس لمواجهة أخطاء سنة واحدة. وهؤلاء الثلاثة أعضاء فى هيئة كبار العلماء.

(3)

ومع اعتراضنا المتوالى على إجراءات السلطة طوال العام الماضى، فإن عقيدتنا لا تقبل تعريض الأنفس للهلاك كما لا تقر العدوان عليها، فكلا التصرفين حاد عن جادة الصواب، حيث إن شريعتنا تقرر بوضوح لا لبس فيه «علو وسمو» قيمة الدم والنفس وأن نفسا واحدة يراق دمها فى غير حق أشد إغضابا لله من هدم الكعبة وزوالها.

لكن ما حيلتنا والقوم ــ سامحهم الله يقدسون تراكم التراث البشرى ويجعلونه دينا إذ يخلطون خلطا عجيبا بين تأييد الحاكم أو الخروج عليه من ناحية، وبين حث الناس ودفعهم لإهلاك أنفسهم فى مواجهة قوة مسلحة لا نتيجة لتحديها غير الموت.

وها هم ــ علمنا الله وإياهم ــ مازالوا يتمسكون بـ«الفقه الوصفى» المتسبب فى إراقة الدماء فى تجاوز غريب لنصوص القرآن الكريم التى جعلت أمر الناس شورى بينهم، وليس رغبة فريق أو غلبة وتغلب فريق آخر.

فهل أعجزت الحيلة الفريق المتغلب عن إيجاد وسائل ووسائط يتوصل بها إلى حسن إدارة الأزمة ولو كلفه قدرا من الصبر؟!

فلا شك أن نسبة من الشعب غير قليلة ضاقت مثلنا من السياسات السابقة واشتد ضيقها من ضجيج الاعتصام، لكن الجميع قد أسقط فى يده واشتد حزنه لدماء سالت، وأرواح أزهقت، ومسيرة وطنية توقفت، وتشرذم حاضر، وشك وريبة يحيط بالمستقبل. فهل إلى خروج من سبيل؟

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات