انحدار السياسة - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:07 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

انحدار السياسة

نشر فى : الخميس 6 نوفمبر 2014 - 8:25 ص | آخر تحديث : الخميس 6 نوفمبر 2014 - 8:25 ص

لم تقابلنا صعوبة شديدة عندما فكرنا، كمجموعة نقاش، فى أن يكون موضوع التمرين العقلى لهذا الأسبوع ترتيب مراحل التاريخ السياسى خلال القرنين الأخيرين حسب أهمية المرحلة وما خلفته من آثار بعيدة المدى على مسيرة الشعوب. اخترنا عددا من المعايير لقياس وترتيب أهمية المراحل كان من بينها «الثراء الأيديولوجى»، بمعنى حيوية المجتمعات السياسية ومدى انشغال النخبة بابتكار وتشكيل وتنفيذ الرؤى العظمى، أى الرؤى التى تتصور طبيعة وتطور العلاقات بين طبقات المجتمع ومنها علاقات الإنتاج والتوزيع والمشاركة فى الحكم. اخترنا أيضا تراث المفاهيم معيارا. المقصود بتراث المفاهيم هو ما خلفته المرحلة من تركيبات فلسفية وعلمية ونظريات واستراتيجيات ومفاهيم سياسية جديدة، أضافت عمقا إلى علوم العلاقات الدولية وتطور المجتمعات. وأضفنا فى النهاية معيار التحولات الجوهرية فى أنماط توازن القوى والتكتلات والتحالفات والمؤسسات الإقليمية والدولية.

•••

عندما قارنا النتائج التى توصلنا إليها كل على حدة لم تفاجئنا حقيقة أن المرحلة الراهنة فى تطور العلاقات بين الدول هى الأقل ثراء، إن لم تكن متخلفة. كما لم يفاجئنا إجماع الآراء على أن فترات عديدة فى القرن التاسع عشر شهدت قفزات فى تطور جوهر وفكر السياسة الدولية، بفضلها استحق القرن، فى نظر أغلبنا، صفة القرن الذهبى. كان بحق قرنا ذهبيا بمعيار وفرة الطاقة الثورية كعنصر مضاد للركود السياسى الذى كان من أهم سمات القرون الأسبق. وكان بحق قرنا ذهبيا بمعيار ثراء «جدل الأيديولوجيا»، وهو الجدل الذى تدين له البشرية بالفضل فى اعتلاء التفكير العقلانى لمستوى متميز، وفى انتقال الدراسات الاجتماعية ودراسات النخبة وأساليب الحكم والديمقراطية نحو آفاق جديدة. كانت المرحلة التى شهدت قفزات واسعة نحو إشراك الناس العاديين فى الحكم والاعتراف لهم بحقوق بل وانتزاعها.

•••

لم نختلف كثيرا حول حيوية بعض فترات القرن العشرين وانعكاس هذه الحيوية على تقدم علوم السياسة وعلاقات السلطة الحاكمة بالشعوب وكذلك العلاقات الدولية. ففى هذا القرن، وبخاصة فى النصف الثانى منه، جرت أكبر وأوسع عملية فى التاريخ لبناء الدول. انتهت الحرب العالمية الثانية لتبدأ على الفور نهضة هائلة فى فكر الاستقلال الوطنى ويقظة الشعوب الملونة ونهاية الاستعمار. كل هذا فى نفس الوقت الذى شهد عملية القضاء على مخزون هائل من المفاهيم الاستعمارية الامبريالية، ومنها على سبيل المثال مفهوم «رسالة الرجل الأبيض»، لتظهر محلها وتنتشر مفاهيم مبتكرة فى التنمية والتبعية.

ولا شك أنه كان للحرب الباردة نصيبها فى إثراء الفكر السياسى، على الأقل فى دول الغرب كما فى عالم الجنوب. كان لهذه الحرب، والصراع الأيديولوجى المرافق لها، الفضل فى اكتشاف طريق ثالث فى السياسة الدولية مثل عدم الانحياز وطرق ثالثة فى التنمية وبناء الدول. واستمرت الطرق الثالثة تلعب دورا متميزا فى نهضة مفاهيم العلاقات الدولية لمدة غير قصيرة.

•••

نعيش، بالمقارنة، مرحلة انحدار عظيم فى العلاقات الدولية، نعيشها واقعا ملموسا ونظريات أكاديمية وفكرا سياسيا، كله فى آن واحد. لا يبدو غريبا أن عددا لا بأس به من الزملاء قرر منذ وقت غير قصير اعتبار أطروحة فوكوياما عن نهاية التاريخ، نقطة الانطلاق لمرحلة الانحدار العظيم بينما رآها البعض الآخر الدليل على أن الانحدار كان قد خطى قبلها خطوات واسعة. هؤلاء وغيرهم يعتقدون، وربما يتصرفون على أساس، أن العالم يتجه بسرعة نحو كارثة إن لم يحدث ما يعيد المجتمع الإنسانى إلى مستوى أعلى فى الإبداع على الأقل فى حقول السياسة.

آخرون، لا ينكرون أهمية أطروحة فوكوياما سواء فى إطلاق مسيرة انحدار السياسة أو الاعتراف بها، ولكنهم أضافوا أطروحة هانتنجتون عن صدام الحضارات. اعتبروها نفيرا لوقف انحدار قادم نهايته تدمير حضارة الغرب. فى الحالتين، وفى هذا الوقت بالتحديد، كانت علامات الانحدار فى مناهج ومفاهيم وتطبيقات العلاقات الدولية واضحة أمام الكافة، دارسين وحاكمين وما بينهم من متابعين ومحللين سياسيين. كان العالم بأسره يتحدث قولا وفعلا عن طريق أوحد وفكر واحد وقطب دولى منفرد ونصر مطلق لأيديولوجية بعينها. انسدت فى نظر الكثيرين الطرق الثالثة أو البديلة، وتدهورت أدوات وأساليب العمل الدولى ابتداء من المؤسسات والمنظمات الدولية إلى الإقليمية وانتهاء بالدبلوماسية وحروب الدول.

•••

انحدرت السياسة إلى مستويات دنيا كالانعزال والانكفاء والانفراط وانحدرت الأدوات إلى أشباه حروب معظم أطرافها ميليشيات وعصابات وإلى دبلوماسيات خرقاء تعتمد التدخل والاختراق، وفاقده وظيفتها الأصلية. واحتل الدين مساحات واسعة فى فراغ السياسة الناتج عن انحدارها، وصارت الطوائف والمذاهب لاعبين أساسيين فى إقامة التحالفات وعقد الاتفاقات. من ناحية أخرى تقلصت مساحات الاهتمام بقضايا، كانت فى مراحل نهضة العلاقات الدولية، محل اهتمام نخب السياسة الخارجية ومراكز الأبحاث، وحلت محلها فى أغلب الأحيان اهتمامات ثانوية وضيقة وجزئية.

•••

نظرة إلى خريطة الاهتمامات الفكرية بالسياسة فى الشرق الأوسط تؤكد صحة ما ذهب إليه الأصدقاء الذين اشتركوا فى النقاش حول انحدار السياسة. نجد على سبيل المثال أنه بين العناوين الرئيسية عنوان عن موضوع يبحث فى مسئولية ضعف أوباما أو انحدار أمريكا عن مظاهر الارتباك العظيم فى الشرق الأوسط. نجد عناوين عن حروب داعش، وعن غارات معدودة ومحدودة من طائرات الحلف الدولى، وعن اجتهادات جديدة حول سلوكيات أهل الشرق الأوسط. يكتشفون الآن أن هذه الشعوب لا تحترم «الحدود»، كل الحدود. لا تحترم الحدود بين الدول، والحدود بين العشائر، والحدود بين الخير والشر، وبين الاعتدال والتسلط، والحدود بين المجتمع والسلطة، وبين الدين والسياسة، وبين الرجل والمرأة. وجدنا عناوين أخرى تتنبأ بقرب انطلاق حرب الثلاثين عاما الدينية فى طبعتها شرق الأوسطية، بينما العنوان الأكثر تداولا وربما الأوفر قبولا هو المتعلق بالسؤال التالى: هل فشل الدولة فى الشرق الأوسط مسئول عن فشل النظام الإقليمى، أم أن فشل النظام الإقليمى مسئول عن سقوط دولة بعد أخرى لعجزه وتقصيره وتقاعسه عن دعمها وصيانتها.

عناوين كثيرة على خريطة اهتمامات علماء السياسة المتخصصين فى سياسات الشرق الأوسط. عناوين لا يربط بينها خيط واحد، ولا نظرية عامة، ولا أيديولوجية بعينها، بل ولا أمل أو هدف يحظى بتوافق أكثرية أعضاء مجتمع الأكاديميين السياسيين فى الشرق الأوسط.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي