الكاردينال والغازية - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:28 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الكاردينال والغازية

نشر فى : السبت 6 ديسمبر 2014 - 8:35 ص | آخر تحديث : السبت 6 ديسمبر 2014 - 8:36 ص

فى النصف الثانى من ثمانينيات القرن الماضى أراد مجلس كنائس الشرق الأوسط تنظيم عدة مؤتمرات لتدريب زوجات رجال الدين فى كنائس الشرق الأوسط (مصر ــ سوريا ــ لبنان ــ الأردن ــ فلسطين) فى كيفية بناء ذاتها كزوجة لرجل عام جماهيرى، وكيف تتعامل مع زوجها وأولادها والجماهير التى تقوم بخدمتهم. وفى الأتوبيس الذى أقلهم من المطار بعد تجمعهم إلى مقر بيت المؤتمرات بقبرص وضع السائق شريطا لأم كلثوم وإذ بزوجات رجال الدين من لبنان يصفقن ثم يرقصن فى ممر الاتوبيس وكانت صدمة للمصريات والأردنيات، أما السوريات فكن يصفقن ويرقصن جلوسا، وفى جلسة التقييم بعد العودة سمعت من تصف زميلاتها من نساء لبنان بـ«الغوازى» والذى لفت نظرى أن نساء الريف المصرى تقبلن الأمر قائلات «عادى» أما اللاتى يعشن فى المحافظات أو فى العاصمة فكن يتحدثن برفض شديد. وهذا جعلنى أخرج بنتيجة أن العيب ليس فى الرقص لكن فى الثقافة والرؤية، فنساء الريف يرقصن فى الأفراح بسهولة شديدة أما الطبقة الوسطى وفوقها بقليل فيترفعن لأنهن (هوانم) فهن لم يصلن بعد للرقص الغربى ويترفعن على الرقص الشعبى.

•••

ما جعلنى أتذكر هذه القصة هو الفارق بين رؤية معظم المصريين للمطربة صباح ورؤية معظم اللبنانيين لها، لقد اعتبر رجال الدين المصريين أن صباح إنسانة منفلتة لأنها تزوجت 7 مرات، وخلطوا بين الأدوار التى تقوم بها على الشاشة وحياتها العادية. وكنت أرى أن رجال الدين الذين يتحدثون عن صباح بحيادهم الأفضل حتى استمعت إلى الكاردينال بشارة الراعى بطريرك الكنيسة المارونية فى جنازة صباح لقد اختار نصا من الكتاب المقدس يتحدث فيه السيد المسيح بمثلٍ عن رجل ثرى كان له ثلاثة عبيد، وإذ كان مسافرا أعطى الأول خمس وزنات، والوزنة مجموعة عملات ذهبية أو فضية، الفضية تساوى الآن «ألف جنيه» والذهبية حوالى ثلاثة آلاف، وأعطى الثانى وزنتين والثالث وزنة ليستثمروها، وعندما عاد من السفر قال له الأول أعطيتنى خمس وزنات وهاك خمس وزنات أخرى ربحتها وكذلك الثانى فقال لكل واحد منهما «أهنئك أيها العبدالصالح والأمين كنت أمينا فى القليل أقيمك على الكثير ادخل إلى قصرى وتناول العشاء مع كبار القوم»، أما الثالث فقال «يا سيدى عرفت أنك إنسان قاس تحصد من حيث لا تزرع وتجمع من حيث لم تبذر فخفت ومضيت وأخفيت وزنتك فى الأرض هو ذا الذى لك»، قال السيد: خذوا منه الوزنة وأعطوها للذى له العشر وزنات»، وعادة يفسر المثل ويطبق على الذى يعمل فى خدمة الله وكتبه المقدسة وأن الشخص الذى لا يستخدم المواهب التى أعطاها له الله لخدمته فسوف يأخذها منه ويعطيها للذى لديه القدرة على استخدامها. يقول السيد المسيح «لأن الذى له (القدرة على استخدام عطايا ومواهب الله) يعطى ويزداد والذى ليس له (هذه القدرة) فالذى لديه يؤخذ منه».

من الرائع أن الكاردينال استخدم هذا المثل على مواهب الفن والموسيقى والشعر، وكيف أن صباح وهى الآن بين يدى الله تقول له «يا سيدى لقد أعطيتنى وزنات (مواهب) وها أنا أقدمها لك مضاعفة بعد مماتى فيقول لها الله أهنئك كنت أمينة فى القليل فى الدنيا سأقيمك على الكثير فى الآخرة ادخلى إلى جنتى لأنك أسعدت العالم بفنك وصوتك وملأت قلوب الناس بالحب والبهجة». بالطبع صدمت هذه الكلمات رجال الدين والمؤمنين الذين يتحدثون عن أن صباح تتلوى الآن فى الجحيم وقد تحطم جمالها وصوتها لأنها استخدمتهما فى الشر والخطيئة.

لم يكتف الكاردينال بذلك لكنه أضاف: «إن صباح ملأت حياتنا بالفرح والحب كانت محبة للحياة فأحبتها الحياة قال: «ماتت فقيرة لأنها أعطت كل أموالها للفقراء عندما كانت ثرية».

•••

أقتبس كلمات للبابا يوحنا بولس بابا الفاتيكان الراحل من تفسيره لسفر التكوين «إن الله بعد ما خلق العالم ألقى نظرة على عمل يديه فرأى أن ما عمله إذ هو حسن، ثم خلق الإنسان ورأى ما عمله فإذ هو حسن جدا»، ويقول يوحنا بولس فى تفسيره لهذا الجزء «إن الله خلق الإبداع فى الإنسان والإنسان يقوم بتصنيعه بأشكال ونوعيات متعددة ومتنوعة ثم يقدمه للإنسانية جمعاء». ثم أنهى الكاردينال كلمته بالقول «لقد علمتنا صباح الكثير». لقد كانت جنازة صباح فرحا حقيقيا امتلأ بالتصفيق والزغاريد والأهازيج وصدحت أغانيها بدءا من الفندق الذى عاشت فيه أواخر أيامها إلى كنيسة مارجرجس فى وسط بيروت ثم بلدتها وكنيسة سانت تريزا حتى المقابر كما أوصت تماما. وكانت الكلمات المرفوعة على الطريق تقول: «ستبقين يا صباح فى صوتك الذى يلون حياتنا بلون الحب»، «ستبقين يا شحرورة الوادى خالدة كأرزة من أرزات لبنان وإن سقطت فروعها فجذورها تنبت من جديد»، «شلال صوتك يا صباح ينبوع فرحتنا».

•••

ومن هنا نجد المفتاح للإجابة على سؤال: لماذا لا تظهر داعش إلا فى منطقتنا؟ ولماذا كل هذا الدم لا يسيل إلا عندنا، ولماذا لا يتم تهجير الأقليات وحرق الكنائس والمعابد والحسينيات إلا بيننا؟! ولماذا لا تقام الحروب بين أتباع الدين الواحد ونغمة التكفير بين أتباع ذات المذهب إلا فى ظهرانينا؟! لماذا يشرد أتباع الكنيسة المختلفين مع ازواجهم لسبب أو آخر ولا يجدون حلولا مقنعة فيتركون الايمان إلى الإلحاد إلا عندنا؟ لماذا لا نرى فى الله إلا جانب الانتقام والغضب؟ لماذا نرى الكتب المقدسة عبئا على الانسان مع أن الله قصد بها رحمة لهم وسعادة وسلام؟.

إنه يا صديقى الفكر الدينى المتشدد المبنى على تفسير متطرف للكتب المقدسة والمقبول من أولى الأمر لقرون مضت حتى صار هذا جزءا من تكويننا وحضارتنا وثقافتنا ففقدنا روح الدين وحياته. وكانت النتيجة أن طعم الحياة فى أفواهنا ليس كطعم الحياة عند آخرين يدركون معنى الحرية والحب والحق والخير والجمال والفرح، ويستطيعون أن يروا الله فى كل ذلك.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات