لكى تكون مصر دولة حديثة - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 1:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لكى تكون مصر دولة حديثة

نشر فى : الإثنين 7 يناير 2013 - 8:20 ص | آخر تحديث : الإثنين 7 يناير 2013 - 8:20 ص

تناولنا فى المقال السابق مغزى أن تكون الدولة حديثة بمعنى أن تكون مواكبة لآخر التطورات فى الحضارة البشرية، وإن احتفظت بخصوصيتها الثقافية، شريطة أن تُطوِّرها فى ضوء رؤية عقلانية لموقعها الفاعل من مسار التطور الحضارى خلال المستقبل المنظور.

 

 

ولم يكن ذلك من قبيل البحث النظرى، وإنما كان القصد منه أن نتلمس مواطئ أقدامنا ونحن فى لحظة فارقة من تاريخ مصر، لا أعتقد أنها سبقت أن شاهدت مثيلا لها منذ أن قادت التطور الحضارى فى فجر التاريخ المسجل، إلى أن عاشت عصر الثورات خلال القرنين الأخيرين.

 

 

فهى تقف الآن على مشارف عملية استبدال دولة بدولة وليس كما ظن الشباب الثائر فى 25 يناير 2011، إحلال نظام حكم محل آخر، مع استبقاء الهياكل الأساسية للدولة، وهو ما أوقعنا فى خطأ جسيم أننا نمر بمرحلة انتقالية (أو ديليفرى بلغة العصر) لتسليم أمانة من يد إلى أخرى.

 

 

ولعل هذا هو السبب فى نشوء ظاهرة فريدة فى نوعها هى أن مصر عاشت نقيضين فى وقت واحد... غليان نفسى فجر انقساما بين تيارين (على الأقل) متناقضين، مع جمود فكرى يتلمس مخرجا من حالة الانفلات بالرجوع إلى منظومات فكرية رسخت فى الأذهان خلال القرن الماضى، سواء تلك التى تولدت فى الربع الثانى منه فى شكل دولة دينية يقدم لها بدعوة إسلامية تخاطب الوجدان المصرى، أو دولة وطنية مستقلة تخاطب العقل، تسترد استقلالها السياسى وتبنى اقتصادا حديثا بالاعتماد على النفس، وتتصدى لقوى الاستعمار قديمه وجديدة.

 

•••

 

يتلخص الموقف الحالى بإيجاز فى الآتى: أولا، أن مصر بعد أن أزاحت كابوسا عنها فى أكتوبر 1973 التى أكد النصر فيها أهمية المعرفة العلمية، وبخاصة الهندسية، فى تحديد المصير، عاشت ثورة ردة فارتضت التبعية بديلا الاستقلال (رحم الله عادل حسين) ثم أحلت التجريف الاجتماعى محل العدالة الاجتماعية، فوئدت ثورة 23 يوليو بذهاب راعيها. ثانيا، أن مصر عاشت حالة ضياع فى أعقاب سقوط نظام مبارك فى فترة تزامنت مع أحداث خطيرة وصفت بأنها ربيع عربى، فتحولت بسبب غياب الرؤية المستقبلية الناضجة إلى صيف يزهق الأنفاس. ثالثا، أن موجة العولمة مازالت تمر بمرحلة مخاض وستظل فى طور التكوين لعدة عقود حتى تتبلور المعالم الأساسية للحضارة الحديثة وتكتسب القدرة على الاستقرار والاستمرار.

 

وبناء عليه فإن المهام التى تواجهنا فى هذه المرحلة تتجاوز تصور أن الحل يكمن فى دستور يؤصل لبناء مؤسسات نظام جديد بالمواصفات التقليدية، لأن هذا يعد إجابة عن سؤال ليس هذا أوانه. ما يجب علينا هو تلمس إجابة تعالج القضايا الثلاث سابقة الذكر: إعادة بناء المجتمع على أسس قويمة وإزالة عوامل التجريف وآثاره؛ والتخلص من مظاهر الضياع التى عمقت الانشقاقات الاجتماعية والتدهور الاقتصادى والانفلات الأمنى والبلاهة السياسية؛ ثم تأمل العالم من حولنا لأنه لم يعد للحدود الوطنية نفس المعزى التقليدى الذى استقر منذ نشأة الدولة الوطنية وارتبط بالمعالم الجغرافية أكثر من ارتباطه بالصفات الديموجرافية فى عصر أصبح الفرد بما يمتلكه من معرفة يقرر لنفسه الحدود التى يعيش ويتحرك فيها؛ والاجتهاد فى وضع تصور لمسار الحركة الحضارية العالمية والاتفاق على موقع نرتضيه لدولتنا الحديثة فنحدد مقوماتها وفقا لذلك.

 

•••

 

الحديث إذن لا ينصب على مشاريع يتنافس بها مرشحو رئاسة أو أحزاب تتسابق على مقاعد البرلمان، بل وضع إستراتيجية قومية لعقدين على الأقل بكل ما تعنيه «قومية» من معانٍ، سواء من حيث التوافق القومى عليها، أو من حيث أبعادها التى تتقدمها قضيتا الأمن والإنماء، أو من حيث التماسك بين مراحلها الزمنية التى تمكّن المجتمع من التخلص من تدنّى أوضاعه الداخلية ومكانته الإقليمية ودوره العالمى، والانتقال إلى وضع تسترد فيه مصر دورها الأصيل فى الريادة الثقافية والقيادة الحضارية.

 

 

هذه المهمة تعنى تشييد صرح شامخ على أسس متينة، وتكمن الأسس فى المنظومة الثقافية التى لابد من تنظيفها مما علق بها من شوائب، وتوظيفها فى تشييد نظام مجتمعى متماسك متناغم المكونات وقادر على التكيف مع متطلبات المراحل الحركية المتعاقبة وإعداد القواعد المتينة لتطور اقتصادى يوفر للبشر مقومات الحياة إنتاجا واستهلاكا ورفاهية، وما يلزم لذلك من منظومة معرفية مبنية على البحث العلمى والابتكار والإبداع الفنى والأدبى.

 

ويستوجب هذا أن تنحى القوى الفاعلة فى المجتمع جانبا صراعها حول كراسى الحكم الذى لن يثمر إلا دولة فاشلة يستبد فيها فصيل بالحكم ويقهر من عداه، ليكرر مأساة الحزب الذى لم يكن وطنيا ولا ديمقراطيا، فى ظل دستور يراه كثيرون صالحا بعد قليل من التهذيب. فالحكم ليس ميزة يتسابق عليها المتسابقون أو يتداولوا السلطة وفق مفهوم غريب للديمقراطية؛ بل واجبٌ يكلَّف فيه من يتولاه بتحقيق المرامى النهائية للمجتمع، التى تحددها الإستراتيجية القومية، ومن هنا يكون البدء بهذه الإستراتيجية، التى يجب أن يشارك فيها المجتمع بكافة أطيافه لكى تكون مقبولة من الجميع وتبقى كذلك أيا كان تداول السلطة بين أيدٍ تختلف فى مجموعة السياسات التى تضعها لتنفيذها.

 

وحتى يتحقق ذلك لابد من تشكيل هيئة تضم ممثلين لمختلف أطياف المجتمع، تتشابك أيديها وتتحاور عقولها من أجل النهوض بالدولة الحديثة. ويكون لهذه الهيئة لجنة تحضيرية من عدد من المفكرين المهتمين بالمسائل التى تتعرض لها الإستراتيجية، تقوم بانتخاب أهم البحوث والدراسات حولها فى مختلف أجهزة الدولة بما فيها دراسات المجالس القومية، وتلخيص ما توصلت إليه، مستعينة بمعهد التخطيط القومى، وأجهزة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لتضع جدولا لأعمال الهيئة، أخذا فى الاعتبار إبراز العناصر القومية، والقطاعية الاقتصادية، والمجتمعات الإقليمية المتباينة فى ملامحها السكانية والاجتماعية والاقتصادية. وينبغى ألا نرجئ الأمر لننصرف إلى الصراعات التى ستستمر فى سياق انتخابات مجلس النواب، فالأمر لم يعد يقبل التسويف... أوقفوا النزاعات العبثية والحوارات حول السياسات والشكليات، فى سبيل تكريس الجهود لبناء الدولة المصرية الحديثة التى تفسح مكانا لكافة أبنائها، والتى تثبت مكانتها على الصعيدين الإقليمى والعالمى.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات