لا نستحق سعادة لم ننتجها - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 3:53 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لا نستحق سعادة لم ننتجها

نشر فى : الثلاثاء 7 فبراير 2017 - 9:50 م | آخر تحديث : الثلاثاء 7 فبراير 2017 - 9:50 م

عامان وانفصلا. تطوعا للإجابة على سؤال لم أسأله وما كنت بحاجة لأسأله. سألهما الأهل وبخاصة أم وشقيقة كل منهما وأفراد الشلة صبيانا وبناتا، والبنات أكثر. الشاب كانت إجابته مبهمة ملقيا بما يشبه العتاب حينا على سوء الحظ وحينا آخر على التدخلات الخارجية. أما هى فراحت تكرر على أسماع الجميع أنها لم تكن سعيدة. تخيلت بردها هذا أنها أشبعت فضول كل الناس وبرأت نفسها من أى اتهام يلحق به أو بها. لم تشأ أن تستطرد فتفسر لنا ما قصدت بعبارة «لم أكن سعيدة». أكانت مملة الحياة معه تحت سقف واحد أم كانت اهتماماتهما متناقضة كل التناقض، أم لم تجد الرفاهة التى تركتها خلفها فى بيت أمها، أم اكتشفت ضيق أفق نظرته إلى حرية المرأة وقصور فهمه ونقص شديد فى تجربة حياته عن واجبات الزوج. أكانت تريده يقضى وقتا أطول فى تسليتها أم على العكس تريده يتركها وقتا أطول مع هاتفها الذكى ومع صديقاتها وأصدقائها. عرفت أنها لن تسترسل ولن تبوح بأكثر من قولها إنها لم تكن سعيدة. صدقتها حين هزت كتفيها رفضا لمحاولة أهل الفضول جرها إلى الكلام لأننى قدرت منذ البداية أنها مثل الكثيرين لا تدرك تماما أو بالوضوح اللازم معنى السعادة.


***
غاب سنوات عديدة عاد بعدها ليجد زميلة عزيزة وقد تربعت منصبا ممتازا. عرفها دؤوبة بالغة النشاط خفيفة الروح سريعة البديهة. كم تباهى بها أمام رؤسائهما وأقرانهما وكم تلقى بسببها عبارات حقد ودود والتقط نظرات حسد حميد. كانت محاورة فذة. لا تدخل سجالا إلا بعد أن تتأكد من أنها أهل للسجال ولا يفوتها فى نهايته الإشادة بقدرات الخصم وحسن أدائه. سألها بعد أن استقر به المقام فى ضيافتها السؤال الخطأ، سألها إن كانت سعيدة. استغربت سؤاله. قالت، تعرف أننى لم أكن يوما باحثة عن السعادة فالسعادة كما علمتنا تجاربنا، وكنا ما نزال فى ريعان شبابنا، لا تحب من يسعى إليها أو يتحدث كثيرا عنها. يعتقد بعض الناس أن الرفاهة المادية، مثل العيش الرغد والصحبة المرفهة والدخل المرتفع، شرط أساسى للسعادة. مثل هؤلاء يكتشفون أحيانا أن أيامهم تمر دون أن تعنى بمجيئها وانقضائها شيئا كبيرا، أو أنهم عاشوا أوهام سعادة يصدق عليها وصف فيكتور هوجو كالخبز الجاف الذى يعيش عليه وحده الرجل الفقير. أنا واحدة من هؤلاء. أتمتع بكل مزايا المنصب الرفيع والدخل العالى. زرت معظم بلدان العالم. استمتعت بصحبة مشاهير. جربت مذاق أفخر الأطباق والمشروبات النفيسة. قضيت شهرا أو أكثر كل عام أتأمل حقيقة نفسى على أيدى خبراء بوذيين. عشت الحياة كما اخترت أن أعيشها. لكن صدقنى يا أقدم الأصدقاء أننى كثيرا ما يراودنى الشعور بأننى أفتقد شيئا. الآن فقط أكتشف أن الحياة التى عشتها بكل طاقتى كانت جافة كرغيف فيكتور هوجو.


***
نحن، أهل مصر، هل عشنا، ذات عصر، حياة أسعد من الحياة التى نعيشها الآن. يحن كبارنا إلى الماضى فهل لأنهم عاشوا سعداء فيه أم لأن أثقال الحاضر ومشقاته وممارسات الظلم السائدة فيه ورداءة المتع العائدة منه جعلتهم يعيشون تعساء. احتار علماء، منذ أن صارت السعادة علما، فى محاولاتهم وضع معايير يقيسون بها السعادة. ما زلنا على كل حال، ورغم جهد أفلاطون وتلاميذه الذين اشتغلوا على السعادة، نقول هذه امرأة سعيدة سعادة أم نام رضيعها، أو نقول رجل سعيد سعادة طفل فى انتظار الاحتفال بعيد ميلاده. قارن هذه المقاييس الشعبية بمعيار مختلف كل الاختلاف، هناك من يصف امرأة فى قمة سعادتها بسعادة أمة بلا تاريخ. لا أعرف لماذا أشعر بأن هذا الوصف أعمق فى حقيقته من ظاهره. حاول أحد الأصدقاء من المحسوبين على طبقة كبار المفكرين إقناعى بأن الأمة المصرية أمة غير سعيدة بسبب تاريخها الطويل جدا، بينما الأمريكيون أمة سعيدة لأنها حديثة النشأة، أمة بتاريخ محدود.


يعيدنا الحديث عن الأمم السعيدة والأمم التعيسة إلى أفلاطون الذى لقن تلاميذه فى دروسه الشهيرة أن السعادة لا تأتى إلينا كالحظ وإنما تعتمد علينا لتوجد. بمعنى آخر هل فعلنا فى حياتنا شيئا نستحق عليه كأفراد أو كشعب أن نكون سعداء. القاعدة تنص على أنه لا حق لنا فى سعادة لا ننتجها تماما كما أنه لا حق لنا فى ثروة لا ننتجها ولا حق لنا فى نهضة ونحن نقضى الحياة قعودا. أضيف وأنا مرتاح الضمير أننى لم أقرأ أن شعبا واتته السعادة فى عصر ظلام أو قهر أو فى عصر افتقر إلى العدالة. قرأنا فى تاريخ ظلام أوروبا والصين وروسيا وبلاد العرب ولم نجد أثرا لسعادة.
***


يخطئ من يخلط بين مشاعر استمتاع عابرة ومفهوم السعادة، فالسعادة رحلة وليست محطة واحدة. مدمن المخدرات لا يمكن وصف حالته وهو تحت تأثير المخدر بالسعادة، كما أنه لا يمكن وصف حالة استمتاعى الرائع بسائل المورفين وهو يسيل لذيذا وباردا فى شرايينى قبل العملية الجراحية بأنها لحظة سعادة. السعادة كما أتخيلها ليست شريانا سرت فيه برودة لذيذة وليست شهوة اشبعت وانقضت وليست تجربة عاطفية عوضت برقيها وروعتها ما قصر فى طولها وأمدها وليست محطة ننزل فيها لنستريح من عناء تعاسة وشقاء ثم نعود فنستقل قطار التعاسة والشقاء. السعادة هى كل هذه اللحظات وأكثر، هى هناك فى انتظارنا، فى انتظار أن ننتجها.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي