نحو عمران نوعى جديد - سامح عبدالله العلايلى - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:08 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحو عمران نوعى جديد

نشر فى : الثلاثاء 7 فبراير 2017 - 10:05 م | آخر تحديث : الثلاثاء 7 فبراير 2017 - 10:05 م

فى أواخر ثمانينيات القرن الماضى تقدمت إلى لجنة ترقيات الأساتذة بالمجلس الأعلى للجامعات بمجموعة من الأوراق والمقالات والأبحاث للحصول على درجة الأستاذية فى الارتقاء العمرانى وتضمنت الأوراق مقالًا بعنوان: «من المسئول عن همجية العمران فى مصر». ويبدو أن الموضوع استفز عددًا من أعضاء اللجنة واعتبروا أن ما ورد به هو إهانة فى حق الكبار، إلا أن من أعضاء اللجنة من اقتنع بالأسباب وتمكنوا من إقناع زملائهم بأنه لا يمكننا أن نحكم على الندرة المتميزة من الإنجازات فى المجال، متناسين حالة الهمجية العامة للعمران التى اكتسحت البلاد منذ حين، والتى تضاعفت شدتها فى زمننا هذا إلى حالة اللامعقول والجنون العمرانى، بدرجة لا تليق بمكانة مصر «أم الأمم» و«منبت براعم الحضارة الإنسانية الأولى».


لنتذكر فى هذا الشأن ما سجله عالم المصريات الفرنسى «جان فرانسوا شامبليون» فى إحدى رسائله.. «نحن فى أوروبا لسنا سوى أقزام.. وليس هناك شعب قديم أو حديث ابتكر فن العمارة والعمران بذلك المقياس الرفيع كما فعله المصريون القدماء.. فقد صنعوها لرجال ترتفع قاماتهم مائة قدم (30 مترا) بينما هامة الرجل العادى لا تزيد على ستة أقدام (1.80 مترا). إن أعظم إنجازاتنا المعمارية فى أوروبا تنهار عاجزة تحت أقدام المائة وأربعين دعامة فى قاعة الاحتفالات بمعبدالكرنك».
***


إننا فى موقف يستوجب أن نحدد فيه هدف العمران، هل هو عمران كمى يرد على احتياجات البشر العاجلة فى الاستيطان بأى وسيلة؟ أم إنه عمران نوعى يهدف إلى تحقيق استقرار آمن وسكينة للمجتمع الإنسانى واستثمار متواصل للموارد الطبيعية والبشرية ــ ينتشر فى ربوع البلاد بطولها وعرضها.


إن العمران ليس فى واقع الأمر أرضا جرداء تكسوها البنايات والطرقات، إنما معناه أوسع من ذلك بكثير، فهو ذلك الوعاء الكبير الذى صنعه الإنسان ليحتضن عموم أفراد المجتمع، بخصائصه وممارساته الشتى المتنوعة. وما العمران هنا سوى مرآة تعكس حال ذلك المجتمع، ولذلك فلاشك أن العمران فى مصر هو نتاج ميراث طويل من الأحداث الكبار والأنشطة الإنسانية بتوافقاتها وتناقضاتها.


فالعمران المصرى يحتل موقعا هاما فى سجل التراث الإنسانى العالمى، رغمًا عن الهزات والتغيرات الهائلة التى تعرض لها المجتمع المصرى على مدى التاريخ، خاصة فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والتى استمرت حتى يومنا هذا. تلك الفترة التى أفرزت فى النهاية توجها عمرانيا يراه البعض إنجازًا كميًا كبيرًا، فى حين يراه البعض الآخر تضخما عمرانيا مرضيا. فهم يرون أن هذا التضخم العمرانى لا يحقق أفضل ظروف الاستقرار للتجمعات البشرية، كما أنه لا يحقق توازنا فى خريطة جغرافيا السكان أو جغرافيا التنمية للمجتمع المصرى. يحدث كل ذلك فى ظل عالم جديد متسارع مُتنام مُتنافس مُتطاحن يغلب عليه طغيان المادة والسلطة.
***


بالتالى فإن الطموحات العمرانية الكبرى التى تبديها السلطة من خلال مخططات عمرانية متنوعة رغم أنها تهدف إلى معالجة أمراض العمران، إلا أنها مازالت تفتقد الإقناع بمضمونها، أو بقدرتها على تحقيق انتشار أوسع لعمران نوعى؛ يكون خارج نطاق الوادى والدلتا، وذلك فى إطار الحفاظ على قيم مجتمعية وتراثية، إلى جانب الحفاظ على توازن بيئى يحقق التواصل عبر الزمن؛ وذلك بسبب عدم وضوح وموضوعية جدوى تلك المشروعات، أو للافتقار إلى آليات تحقيق أهداف هذه الطموحات.


الآفة الكبرى للعمران المصرى تتمثل فى التكدس الفوضوى فى كل من «البناء والاستخدام والحركة والبشر». ذلك التكدس المتنامى يفترس أمامه قيم وتراث المجتمع.. وعلى سبيل المثال فإن إقليم القاهرة الكبرى يأوى ربع عدد سكان مصر والذين يحتلون أراضى تبلغ مساحتها حوالى 0.006% من مساحة البلاد. هذه العلاقة المختلة بين تركز وتوزيع السكان فى ظل حيز الأراضى المتاح، أدت من بين ما أدت إليه إلى تحول العاصمة إلى مأوى لكل صاحب مصلحة أو غرض، بل وحولها لمقر للهاربين والمهاجرين من مناطق أخرى مهمشة أو أقل شأنا، وهذا بالتوازى مع توغل أعمال البناء العشوائى فى جميع الأرجاء على مدى عقود، دون وجود ضابط أو رابط يحول دون اتساع تلك الأعمال، وبدون حتى الالتزام بالضوابط التى حكمت نمو العمران حتى ماض قريب. بالتالى فقد انعكس ذلك بطبيعة الحال على مجتمع وعمران عاصمة مصر.. على تراثها وأدائها وكفاءتها المحلية والإقليمية، وأدى إلى صعوبات هائلة فى حياة واستقرار وأمن مجتمع العاصمة، كما أثر أيضًا على العلاقات البينية التى شابها التوتر الشديد والعدائية.

 

لاشك فى أن معالجة تلك الآفة ليست بالأمر المستحيل، حيث يمكن باتخاذ تدابير وإجراءات «شجاعة» إعادة الاتزان النوعى والجغرافى تدريجيا إلى العمران، من خلال التوجه نحو انتشار توطينه خارج نطاق الوادى والدلتا، فى أنوية عمرانية إنتاجية فى مجالات الزراعة والحرف والصناعات الصغيرة والمتوسطة ــ التى هى حتما قواعد التنمية العمرانية المستقبلية ــ بما يمكنها من استيعاب أجيال قادمة من العمالة الشابة بعد تأهيلها، وذلك فى إطار تفعيل برامج تحفيز الهجرة العكسية للاستثمار والبشر. كل ذلك بطبيعة الحال يتطلب إدارة واعية تتمتع برؤية ثاقبة وعلم وفير وخبرة واسعة.
***


إنها حقا قضية حيوية ومحورية لابد من وضعها فى الاعتبار فى سبيل حماية حاضر ومستقبل البلاد، لذلك فهى تستحق المشاركة الجماعية فى حوار شفاف حولها ودون تأجيل.. ولابد أن يقود الحوار مجموعة من العلماء والحكماء، خاصة وأن الأمر لا يخص السلطة التنفيذية بمفردها بل يخص مستقبل عموم المصريين عبر الزمان.

سامح عبدالله العلايلى عميد سابق وأستاذ بكلية التخطيط العمرانى جامعة القاهرة
التعليقات