ربيع أخف ظلا - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 9:41 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ربيع أخف ظلا

نشر فى : الخميس 7 مارس 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 7 مارس 2013 - 8:00 ص

مازالت الثورات تفاجئنا. كل ثورة جديدة تأتى بجديد وتحتفظ لنفسها بنكهة خاصة تميزها عن غيرها. لا ثورتان تطابقتا. البلشفية لها نكهة غير نكهة الفرنسية أو الأمريكية أو الماوية أو الناصرية.. أو أى من ثورات الربيع العربي.. وها هى «الخمسة نجوم» الإيطالية تأتى لتؤكد أن لكل ثورة نكهتها المتميزة.

•••

«الخمسة نجوم» ظاهرة إيطالية بكل معنى الكلمة. ثورة ساخرة ومباشرة، وهى أيضا محلية بمعنى أنها انبثقت فى المدن الصغيرة والمتوسطة، بل أكاد اقول إنها «فردية» بمعنى أنها انطلقت فى البداية منذ ثلاث سنوات مستندة إلى عزم رجل منفرد. وهى حركة رفضت الأنماط السابقة السائدة فى احتجاجات إيطاليا. لم تعتمد على دعم حزب قائم أو حركة اجتماعية ولم تمارس العمل الجماهيرى بل لعلها حتى كتابة هذه السطور لم تعقد مؤتمرا واحدا فى ميدان او شارع أو زقاق. اختارت الانترنت وسيلة للتعارف ومكانا للالتقاء وفرصة للاجتماع. تكونت نواها من أفراد لم يلتقوا ولم يقابل أحدهم الآخر وجها لوجه.

 

بدأنا نعرف أنها تتشكل من خليط غير متناسق. أكثر من ثلث أفرادها من النساء، وهذا فى حد ذاته تطور لا سابقة له فى إيطاليا أو فى أى ثورة أو حركة احتجاجية. متوسط عمر الفرد فيها 32 سنة، وهذا أيضا لا سابقة له فى العمل السياسى أو النقابى فى إيطاليا. 80٪ منهم من طلبة وطالبات الجامعة و15٪ من العاطلين عن العمل. هذا الخليط الذى لم ينزل إلى الشارع ولم يلتق فى مكان واحد ولم يحصل على تمويل من أحد ولم تؤازره صحيفة أو قناة فضائية استطاع أن يحصل على حوالى ربع أصوات الناخبين فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة، واستطاع فى الوقت نفسه، وربما دون أن يدرى أو يرغب، أن يهز أركان أوروبا المستهينة دائما بشباب إيطاليا ورجالها ونسائها.

•••

أهداف الخمسة نجوم قليلة ولكن مباشرة. يأتى فى صدارتها إنترنت مجانى لكل مواطن، وقانون يفرض الكشف سنويا عن الذمة المالية لكل نائب فى البرلمان وتخفيض ساعات العمل إلى 30 ساعة أسبوعيا، وتنظيم استفتاء على استمرار أو وقف عضوية إيطاليا فى منطقة اليورو.

 

هذه الأهداف زادت خلال الأيام العشرة التى مرت منذ يوم إجراء الانتخابات، فالخمسة نجوم كغيرها من حركات الاحتجاج تتكون لها أهداف إضافية مع استمرار تقدمها وتوسعها. أصبح واضحا تماما أن الخمسة نجوم تسعى إلى إسقاط النخبة السياسية الإيطالية، إذ يكاد لا يخلو بيان أو تصريح صادر عن بيبى جريللو«Beppe Grillo»، الممثل الكوميدى والساخر الذى أطلق شرارة الحركة، من التعبير عن كراهية الجماهير الشديدة لهذه الطبقة السياسية. لذلك لم يكن مفاجئا أن نرى شبانا يحملون جثمانا وقد كتب عليه «ماتت النخبة السياسية»، أو نرى محتجين آخرين يصرخون فى وجوه النواب والوزراء ورجال الاحزاب: «استسلموا.. استسلموا.. عودوا إلى بيوتكم». جدير بالملاحظة أننا فى مصر بدأنا فى الآونة الأخيرة نسمع هتافات لا تختلف كثيرا عن هتافات النجوم الخمسة.

•••

قال عنها المعلقون فى إيطاليا وفى دول أوروبية أخرى إن حركة الخمسة نجوم تجسد رغبة الإيطاليين فى التغيير والثورة على الوضع القائم، ولعلهم يقصدون تحديدا ألمانيا والاتحاد الأوروبى فى بروكسل بين جهات تدعم الوضع القائم فى إيطاليا وفى غيرها وتقف عائقا ضد التغيير. قيل أيضا إنها ربما قامت لتمنع سقوط إيطاليا فى هاوية العنف التى سبق أن سقطت فيها فى عقدى السبعينيات والثمانينيات عندما انتشرت الجماعات الإرهابية وراحت تقتل كبار السياسيين وتضع القنابل لتفجير الاماكن العامة وخلخلة الاستقرار، أو لعلها جاءت لتمنع «توحل» إيطاليا فى مستنقع الفوضى الذى سقطت فيه مجتمعات عربية نشبت فيها ثورات الربيع، فالخمسة نجوم تحمل رسالة التغيير مثلها مثل جماعات الشباب العربى التى خرجت تحتج على حكومات فاسدة ولكنها اختلفت عن الثوار العرب حين اختارت مبكرا وهى ما زالت مكتملة العنفوان والطهارة صندوق الانتخابات مفضلة إياه كخطوة أولى على الميادين، وبهذا الاختيار اختلفت أيضاً عن احتجاجات اليونان وإسبانيا والبرتغال.

•••

هى أيضاً حركة تمرد على الشره والجشع والفساد فى المجتمع الإيطالي. أستطيع أن أتصور أن أحد الدوافع التى شجعت السنيور بيبى جريللو للخروج بالحركة من موقع الاحتجاج إلى حيز الحل السياسى المباشر كان قرار السنيور سيلفيو برلسكونى رئيس الوزراء الأسبق العودة إلى الحلبة السياسية. برلسكوني، بما يجسده لدى قطاع من الإيطاليين من أخلاق ومبادئ وألاعيب وكذب وخداع يعبر أوضح تعبير عن الهدف الذى نشأت لمحاربته والقضاء عليه حركة الخمسة نجوم. تكمن خطورة برلسكونى فى أنه ينطق بما هو الأسوأ فى طباع وسلوك الفئات الانتهازية فى الشعب الإيطالي. لا يعترف بالحقيقة ولا يريد أن يراها ولا يريد لأحد أن يذكره بها. يعتقد، وعندنا فى ثقافتنا من يشاركه هذا الاعتقاد، أن كل شيء فى هذه الدنيا «فان» وبالتالى يحق للمواطن أن ينهب وبسرعة ليفوز قبل غيره بكل اللذات والمتع والثروات المتاحة.

 

طبقا لفلسفة برلسكونى فى إدارة شئون الدولة، فإن الشرفاء، سواء كانوا رجال قضاء أو إدارة أو تعليم أو من عامة الشعب، يعطلون دولاب الانتاج والعمل ويقفون عثرة فى طريق الرخاء فضلا عن سماجتهم وثقل ظلهم. صدق من اعترض على تصنيف برلسكونى كظاهرة وفضل اعتباره «مؤسسة» من مؤسسات الحكم فى إيطاليا. صدقت أيضاً حركة النجوم الخمسة التى جعلت إسقاط برلسكونى وإخراجه نهائيا من ساحة السياسة هدفا رئيسا.

•••

 تخشى أوروبا وبخاصة دول الشمال بقيادة ألمانيا أن تنتقل الأزمة الإيطالية بحالتها الراهنة بالعدوى إلى دول أوروبية أخرى تعانى من اضرابات واحتجاجات اجتماعية وتتعرض جميعها لحالة من عدم الاستقرار. تدرك هذه الدول والمفوضية الأوروبية فى بروكسل أن ما حدث فى إيطاليا وجه ضربة شديدة إلى الحلول الموضوعة فى ألمانيا لحل أزمة منطقة اليورو، وربما وجه ضربة موجعة أخرى إلى الفكرة الأوروبية ذاتها.

•••

يعرف المسئولون الألمان، قبل غيرهم، أن إيطاليا ستواجه فى الشهور المقبلة حقائق مؤلمة. أول حقيقة يصعب إنكارها أو تجاهلها أنها عاشت حياة ناعمة لسنوات طويلة استرخت خلالها لتدليل أوروبا والمجتمع الدولى الذى لم يكلفها بأى دور جدى على مستوى القارة أو على مستوى العالم. المعروف على جميع المستويات الدولية أن ايطاليا، وهى ثالث اقتصاد أوروبى من حيث الضخامة، لم تتحمل مسئولية دولية كبيرة فى أى وقت كالمسئوليات التى تتحملها بريطانيا والمانيا وفرنسا بل والسويد والنرويج على سبيل المثال. عاشت إيطاليا على أمجاد الماضي، أمجاد ثلاثة آلاف سنة حضارة اندثرت وعصور امبراطورية انقضت وآثار طرق ومعابد وقصور وتماثيل شاهدة على هذا الاندثار وذاك الانقضاء. عاشت فى عالم خيالى صنعه الزعيم الفاشى موسولينى قبل عشرات السنين وأعاد إنتاجه برسلكونى ونخبته المالية والإعلامية ليدغدغ به غرائز الجشع والنهب وحملات الغش.

•••

عشت فى إيطاليا مع بعض أحلام شعبها وبعض خيبات أملهم، وأعرف جيدا معنى أن تموت الحقيقة كل يوم على مذبح الجمال والأناقة وخفة الروح وروعة الفن و «حلاوة الحياة».

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي