جريمة قطة - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 5:14 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

جريمة قطة

نشر فى : الجمعة 7 أبريل 2017 - 10:05 م | آخر تحديث : الجمعة 7 أبريل 2017 - 10:05 م
فى واحد من الأمكنة التى عملت بها خلال السنوات الأخيرة كانت هناك قطة مُقيمة، تحبل وتلد ثم تحبل وتلد، لا تكاد تنتهى مِن إرضاع أولادها الأبكار حتى تبدأ فى تغذية التاليين. عاشت لها ابنة بيضاء اللون تماما لا يشوب شعرها الناعم أى لون دخيل، كبرت ودخلت دائرة الحبلِ والولادة هى الأخرى وصارت عندنا قبيلة كبيرة، يقوم على توفير الأكل لها الموظفون والموظفات الذين يعدون القططَ جزءا أصيلا مِن المكان وأنا منهم.

جاءت الابنة فى ولادتها الأولى بخمس قطيطات تحملُ الألوانَ كافة؛ الرمادى والأسود والمشمشى والأبيض وخليطا مِن هذا وذاك. كعادتى فى الصباحات؛ رُحت أجهز بقايا الطعام للأم، وَصَلَت فى هذه الأثناء مُدبرة المنزل النوبية العجوز فما إن علمت بميلاد القطيطات الخمس حتى اندفعت تلومنى لتقصيرى: «لازم نجيب فرخة ونعمل لها شوربة».

أهلُ الجنوبِ مُولعون أغلبهم بالقططِ، يقدسونها ويعاملونها باحترامٍ هائل، ربما هو ميراث حضارة مصر القديمة التى ظهرت رسومُ القططِ ذات الأعناق الطويلة الممدودة فى كبرياء على جدرانِ معابِدِها. فى قلوب أهل أسوان والأقصر والنوبة مَحَبة خاصة للقطط لمستها كثيرا ورأيت عديد مظاهرها. فى نفوسهم مشاعرُ رفقٍ ورحمةٍ لم تدهسها غلظةُ العاصمةِ الشرسةِ بعد، تلك التى تُفضِلُ السحقَ للجميع.
***
تتواتر الأخبارُ مِن يوم إلى آخر عن اجتماعات يعقدها المسئولون فى الأحياء والمحافظات مع أقرانهم فى إدارات الطب البيطرى، تبحث كيفية التعامل مع الكلابِ الضالة المُنتشرة فى الشوارع كافة؛ كبيرها وصغيرها، ثريها وفقيرها. تُسفِر الاجتماعاتُ فى العادة عن قرارات وتَنتُج عن القرارات عملياتُ قتلٍ عشوائية تستخدمُ كثيرَ الأحيانِ الخرطوش.
فى النوادى الكبيرة والعريقة، يجرى تسميمُ القطط دوريا. كثيرا ما سمعت بأذنى أشخاصا متذمرين مشمئزين؛ النسبة العظمى منهم للحق نساءٌ، يُعلن قرفَهن مِن النادى ومسئوليه ويدعون إلى محاسبتهم مُحاسبة عسيرة، تمتد إلى عدم اختيارهم فى أى انتخابات مجلس إدارة مستقبلية؛ لا يتطرق حديثُ التذمُر إلى غياب الأنشطة والخدمات عن النادى ولا إلى وجود تقصير فى جمع القمامة مِن مساحاته الشاسعة المُترامية الأطراف ولا إلى ثبات حوض السباحة سنوات على وضعه العجيب؛ حفرة فى الأرض تنتظر التجهيز. ليس لسبب من الأسباب السالفة إنما لأن النادى فيه قطط.
مقابل هؤلاء المستاءات بشدة، الناقمات على وجود القطط، المترقبات ليوم تتحقق فيه أحلامهن بإبادتها إبادة كاملة، هناك أشخاص يسلكون مسلكا نقيضا، فيرحبون بالقطط على موائدهم ويعطونها من طعامهم، ويمسحون على ظهورها، ويضعون لها الماء فى قيظ الصيف، ومنهم من يختار قطا بعينه فيعامله وكأنه صديق قديم؛ يأتى القط ليستقر بجانبه طيلة زيارته للنادى ولا يبارحه حتى يغادر.

***
توجست من سماع حديث الانتقام والرغبة المحمومة فى قتل كل حى داخل أسوار النادى حتى الغربان والعصافير، سألت بنفسى حتى تأكدت أن الوسيلة المزمع استخدامها لإبعاد القطط لن ترقى إلى القتل، قال لى أحد العاملين إنهم لو قرروا التخلص منها فسيتصيدونها فى أقفاص وشباك ويخرجونها؛ شعرت بشىء من الارتياح، لن آتى ذات صبيحة فأجد الجثث متناثرة هنا وهناك.
أعجب للناس الذين يتصورون أن الأرض لا تتسع إلا لهم وحدهم، وأن الوجود لابد أن يكون خالصا لهم قاصرا عليهم، لا يسمحون بحضور كائن آخر إلى جانبهم وكأن الأرض هى اختراعهم الخاص وملكهم الذى لا ينبغى أن يشاركهم فيه أحد؛ ولو قط أو كلب. فكرة أنا فقط أو أنا ومن يشبهنى فقط، تتجاوز كراهية الحيوانات إلى كراهية البشر المختلفين أنفسهم ومن ثم العمل على إبعادهم وإقصائهم، لكن لهذا الحديث مقام آخر إذ هو مُمتَد مُتشَعب.
***
أذكر أن الموظفين الذين دأبوا على إطعام قبيلة القططِ فى المكتب، كانوا دائما فى حال مِن التوجُسِ والقلقِ، يشعرون أن سلوكهم مرفوض، يدعو إلى اتخاذ أسباب الحيطة والحذر كى لا يعرف رؤساؤهم فيتعرضون إلى العقاب، رأوا ضرورة التخفى بينما رأيت العكس، فالرغبة فى مُساعدة كائنٍ ضعيفٍ تدعو إلى الفخرِ لا الخجل وتستحقُ الثناء والمديح بدلا مِن التوبيخ. أتصور لو وضعت القطة صغارها فى مصلحة حكومية ببلدٍ أوروبى، لضربوا طوقا أمنيا لحمايتها وحماية أبنائها، ولتباروا فى إشعارها بالأمان ولوفروا لها الطعام والماء، ولأقامت وسائل الإعلام احتفالية لمن ساعدها فى مِحنتها واحتفت بشجاعتِها ومُقاومتها لظروف الفناء.
تركت المكانَ مُنذ فترة وذهبت إلى آخر، وواظبت على إحضارِ بقايا الطعامِ للقطة وأولادِها بين الحين والحين ثم عرفت بعد أشهرٍ مِن مُغادرتى أن القطة ماتت، رأوها تتلوى على الأرض يمينا ويسارا ثم سكنت حركتها إلى الأبد.

 

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات